إبراهيم باشا Admin
عدد المساهمات : 703 تاريخ التسجيل : 23/02/2013 الموقع : http://www.ansarsonna.com
| موضوع: شرح أحاديث رياض الصالحين . باب المراقَبة ( جزء 3 ) . شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين . الإثنين ديسمبر 14, 2015 7:57 pm | |
|
شرح أحاديث رياض الصالحين . باب المراقَبة ( جزء 3 ) .
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين .
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا .
أحكام المسح على الخفين والجبيرة: سبق أن الطهارة تتعلق بأربعة أعضاء من البدن، وهي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان، فأما الوجه فيُغسل، وأما اليدان فتغسلان، وأما الرأس فيمسح، وأما الرجلان فتغسلان أو تمسحان. اثنان يغسلان ،وواحد يمسح، وواحد يغسل أو يمسح! أما الوجه فلا يمكن أن يمسح إلا إذا كان هناك جبيرة، أي: لزقة على جرح أو ما أشبه ذلك.فلو أن إنسانًا غطَّى وجهه بشيء من سموم الشمس أو غيره فإنه لا يمسح عليه، بل يزيل الغطاء ويغسل الوجه. إلا إذا كان هناك ضرورة فإنه يمسح ما غطَّى به وجهه على سبيل البدل من الغسل. وأما اليدان فكذلك لا تمسحان، بل لا بد من غسلهما إلا إذا كان هناك ضرورة، مثل أن يكون فيهما حساسية يضرها الماء وجعل عليها لفافة، أو لبس قفازين من أجل أن لا يأتيهما الماء، فلا بأس أن يمسح مسح جبيرة للضرورة.وأما الرأس فيُمسح، وطهارته أخف من غيره ولهذا لو كان على رأس المرأة حنَّاء ملبَّد عليه، أو لبدَ المحرمُ رأسه في حال إحرامه كما فعل النبي- عليه الصلاة والسلام- فإنه يمسح هذا الملبَّدَ ولا حاجة إلى أن يزيله. أما الرِّجلان فتُغسلان وتُمسحان، ولهذا جاء القرآن الكريم على وجهين في قراءة قوله تعالى: ((وأرجلَكم)) بالفتح والكسر. ففي قراءة ﴿وأرجلَكم﴾ وفي قراءة ﴿وأرجلِكم﴾. أما قراءة الكسر ﴿أرجُلِكم﴾ فهي عطفا على قوله: ﴿وامسحوا برؤوسكم﴾، أي: وامسحوا بأرجلكم. وأما النصب ﴿وأرجلَكم﴾ فهي عطفًا على قوله تعالى: ﴿اغسلوا وجوهَكم﴾ يعني: واغسلوا أرجلكم. ولكن متى تُمسح الرجل؟ تُمسح الرجل إذا لبس عليها الإنسان جوارب أو خفين. الجوارب: ما كان من القطن أو الصوف أو نحوه. والخفان: ما كان من الجلد أو شبهه، فإنه يمسح عليهما، لكن بشروط أربعة. الشرط الأول: الطهارة: أي طهارة الخفين أو الجوربين، فلو كانا من جلد نجس فإنه لا يصح المسح عليهما، لأن النجس خبيث لا يتطهر مهما مسحته وغسلته. أما إذا كانتا متنجستين، فمن المعلوم أن الإنسان لا يصلي فيهما، فلا يمسح عليهما. الشرط الثاني: أن يلبسهما على طهارة بالماء: فإن لبسهما على تيمم فإنه لا يمسح عليهما. فلو أن شخصا مسافرا لبس الجوارب على طهارة تيمم ثم قدم البلد فإنه لا يمسح عليهما، لأنه لبسهما على طهارة تيمم، وطهارة التيمم إنما تتعلق بالوجه والكفين، ولا علاقة لها بالرجلين. وعلى هذا يكون الشرط مأخوذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة: ((إني أدخلتهما طاهرتين)) . الشرط الثالث: أن يكونا في الحدث الأصغر: أي: في الوضوء، أما الغسل فلا تُسمح فيه الخفان ولا الجوارب، بل لابد من خلعهما وغسل الرجلين، فلو كان على الإنسان جنابة فإنه لا يمكن أن يمسح على خفيه. الشرط الرابع: أن يكون في المدة المحددة شرعا: وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، تبتدئ من أول مرةِ مسحٍ بعد الحدث، أما ما قبل المسح الأول فلا يُحسب من المدة. فلو فرض أن شخصا لبسها على طهارة في صباح اليوم الثلاثاء، وبقي إلى صلى العشاء في طهارته، ثم نام في ليلة الأربعاء، ولما قام لصلاة الفجر مسح، فيوم الثلاثاء: لا يحسب عليه، لأنه قبل المسح، بل يحسب عليه من فجر يوم الأربعاء، لأن حديث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: ((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم)) . وقال صفوان بن عسال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم)) أخرجه الترمذي،و ابن ماجه.
فالعبرة بالمسح لا باللبس، ولا بالحدث بعد اللبس.فيتم المقيم يوم وليلة، أي: أربعا وعشرين ساعة، ويتم المسافر ثلاثة أيام بلياليهن، أي: اثنتين وسبعين ساعة، فإن مسح الإنسان وهو مقيم وسافر قبل أن تتم المدة، فإنه يتممُ مسحَ مسافر ثلاثة أيام. مثلًا: لو لبس اليوم لصلاة الفجر ومسح لصلاة الظهر، ثم سافر بعد الظهر، فإنه يتمم ثلاثة أيام، يمسح ثلاثة أيام ولو كان بالعكس: مسح وهو مسافر ثم أقام، فإنه يتمم مسح مقيم، لأن العبرة بالنهاية لا بالبداية، العبرة في السفر أو الإقامة بالنهاية لا بالبداية. وهذا هو الذي رجعَ إليه الإمام أحمد- رحمه الله- وكان بالأول يقول: أن الإنسان إذا مسح مقيمًا ثم سافر أتم مسح مقيم، ولكنه رجع عن هذه لرواية وقال: إنه يتمم مسح مسافر. ولا تستغرب أن العالم يرجع عن قوله، لأن الحق يجب أن يتَّبع، فمتى تبيَّن للإنسان الحق وجب عليه اتباعه، فالإمام أحمد- رحمه الله- أحيانا يروى عنه في المسألة الواحدة أكثر من أربعة أقوال أو خمسة إلى سبعة أقوال في مسألة واحدة. وهو رجل واحد، أحيانا يصرِّح بأنه رجع وأحيانًا لا يصرِّح، إن صرَّح بأنه رجع عن قوله الأول فإنه لا يجوز أن يُنسب إليه القول الذي رجع عنه، ولا يجوز أن ينسب له إلا مقيَّدا، فيقال: قال به أوَّلاً ثم رجع، أما إذا لم يصرح بالرجوع فإنه يجب أن تُحسب الأقوال كلها عنه، فيقال: له قولان، أو له ثلاث أقوال، أو أربعة أقوال.والإمام أحمد تكثر الرواية عنه، لأنه أثريٌّ يأخذ بالآثار، والذي يأخذ بالآثار ليس تأتيه الآثار دفعة واحدة حتى يحيط بها مرة واحدة ويستقر على قول منها، لكن الآثار تتجدد، يُنقل له حديث اليوم، ويُنقل له حديث في اليوم الثاني، وهكذا. واعلم أن الإنسان إذا تمت المدة وهو على طهارة فإنه لا تنتقض طهارته، لكن لو انتقضت فلا بدَّ من خلع الخفين وغسل القدمين، لكن مجرد تمام المدة لا ينقص الوضوء. كذلك أيضًا إذا خلعها بعد المسح وهو على طهارة، فإنها لا تنتقض طهارته، بل يبقى على طهارته، فإذا أراد أن يتوضأ فلابد من أن يغسل قدميه بعد أن نزع. والقاعدة في هذا حتى لا تشتبه: أنه متى نُزع الممسوح فإنه لا يعاد ليمسح، بل لابد من غسل الرجل ثم إعادته إذا أراد الوضوء. الشرط الثالث: استقبال القبلة: فاستقبال القبلة شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا به، لأن الله تعالى أمر به وكرر الأمر به. قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة:150] ، أي : جهته. وكان النبي- عليه الصلاة والسلام- أول ما قدم المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس، فيجعل الكعبة خلف ظهره والشام قِبَلَ وجهه، ولكن بعد ذلك ترقَّب أن الله سبحانه وتعالى - يشرع له خلاف ذلك، فجعل يقلِّب وجهه في السماء ينتظر متى ينزل عليه جبريل بالوحي في استقبال بيت الله الحرام، كما قال الله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلينَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:144]، فأمره الله- عز وجل- أن يستقبل المسجد الحرام، أي: جهته. إلا أنه يُستثنى من ذلك ثلاث مسائل: المسالة الأولى: إذا كان عاجزا كمريض وجهه إلى غير القبلة، ولا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، فإن استقبال القبلة يسقط عنه في هذه الحال، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، وقوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)) أخرجه البخاري، ومسلم. المسألة الثانية: إذا كان في شدة الخوف، كإنسان هارب من عدو، أو هارب من سبع، أو هارب من نار، أو هارب من واد يغرقه! المهم أنه في شدة خوف، فهنا يصلي حيث كان وجهه. ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:239]، فإن قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ عام يشمل أي خوف. وقوله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ على أنَّ أي ذكر تركه الإنسان من أجل الخوف فلا حرج عليه فيه،ومن ذلك استقبال القبلة. ويدل عليه أيضا: ماسبق من الآيتين الكريمتين و الحديث النبوي في أن الوجوب معلَّق بالاستطاعة المسألة الثالثة: في النافلة في السفر، سواء كان على طائرة، أو على سيارة، أو على بعير، فإنه يصلي حيث كان وجهه في صلاة النفل، مثل الوتر وصلاة الليل والضحى وماأشبه ذلك.والمسافر ينبغي له أن يتنفَّل بجميع النوافل كالمقيم سواءً إلا في الرواتب، كراتبه الظهر والمغرب والعشاء، فالسنة تركها، وماعدا ذلك من النوافل فإنه باقٍ على مشروعيته للمسافر، كما هو مشروع للمقيم. فإذا أراد أن يتنفل وهو مسافر على طائرته، أو على بعيره، أو على حماره، فليتنفَّلْ حيث كان وجهه، لأن ذلك هو الثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذه ثلاث مسائل لا يجب فيها استقبال القبلة!
أما الجاهل فيجب عليه أن يستقبل القبلة، لكن إذا اجتهد وتحرَّى ثم تبيَّن له الخطأ بعد الاجتهاد، فإنه لا إعاده عليه، ولا نقول إنه يسقط عنه الاستقبال، بل يجب عليه الاستقبال و يتحرَّى بقدر استطاعته، فإذا تحرى بقدر استطاعته ثم تبيَّن له الخطأ، فإنه لا يعيد صلاته، ودليل ذلك أن الصحابة الذين لم يعلموا بتحويل القبلة إلى الكعبة، كانوا يصلون ذات يوم صلاة الفجر في مسجد قباء، فجاءهم رجل فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أُنزل عليه قرآن و أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فاستداروا، بعد أن كانت الكعبة وراءهم جعلوها أمامهم، فاستداروا وبقوا في صلاتهم وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن إنكار له،فيكون ذلك مشروعا، فإذا أخطأ الإنسان في القبلة جاهلا فإنه ليس عليه إعادة، ولكن إذا تبيَّن ولو في أثناء الصلاة وجب عليه أن يستقيم إلى القبلة،
فلو فرض أن إنسانًا شرع يصلي إلى غير القبلة يظن أنها القبلة، فجاءه إنسان وقال له: القبلة عن يمينك أو يسارك، وجب عليه أن يستدير على اليمين أو على اليسار دون أن يستأنف الصلاة؛ لأنه في الأول كان عن اجتهاد وعن وجه شرعي فلا يبطل. فاستقبال القبلة شرط من شروط الصلاة لا تصح الصلاة إلا به، إلا في المواضع الثلاثة التي ذكرناها، وإلا إذا أخطأ الإنسان بعد الاجتهاد والتحري.
وهنا مسألة: يجب على من نزل على شخص ضيفًا و أراد أن يتنفَّل أن يسأل صاحب البيت عن القبلة، فإذا أخبره اتجه إليها؛ لأن بعض الناس تأخذه العزة بالإثم، ويمنعه الحياء- وهو حياء في غير محله- عن السؤال عن القبلة. فبعض الناس يستحي من السؤال حتى لا يقول الناس لا يعرف! لا يضر، فليقولوا ما يقولونه، بل اسأل عن القبلة حتى يخبرك صاحب البيت.
وأحيانًا بعض الناس تأخذه العزة بالإثم أو الحياء، ويتجه بناءً على ظنه إلى جهة ما يتبيَّن له أنها ليست القبلة، وفي هذه الحال وجب عليه أن يعيد الصلاة؛ لأنه استند إلى غير مستند شرعي، والمستند إلى غير مستند شرعي لا تُقبل عبادته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) .
الشرط الرابع: النيَّة: فإن الصلاة لا تصح إلا بنيَّة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) الحديث.
وقد دلَّت الآيات الكريمة على اعتبار النية في العبادات، مثل قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح:29]، وقال تعالى :﴿وَمَا تُنفِقُونَ إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّه﴾ [البقرة :272]، والآيات في هذا كثيرة، وقال: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء:100] ،
فالنية شرط من شروط صحة الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، وهي- في الحقيقة - ليست بالأمر الصعب، كل إنسان عاقل مختار يفعل فعلًا فإنه قد نواه، فلا تحتاج إلى تعب ولا على نُطقٍ محلُّها القلب: ((إنما الأعمال بالنيات ))؛
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالنية ، ولا أمر أمته بالنطق بها، ولا فعلها أحد من أصحابه فأقرَّه على ذلك، فالنطق بالنية بدعة، هذا هو القول الراجح؛ لأنك كأنما تشاهد الرسول- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه يصلون ليس فيهم أحد نطق قال: اللهم إني نويت أن أصلي.
وما أظرف قصة ذكرها لي بعض الناس- عليه رحمة الله- قال لي: إن شخصًا في المسجد الحرام- قديمًا- أراد أن يصلي، فأقيمت الصلاة فقال: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات لله تعالى خلف إمام المسجد الحرام، لما أراد أن يكبر قال له الرجل إلى جواره: اصبر بقي عليك! قال: ما الباقي؟ قال له: قل في اليوم الفلاني وفي التاريخ الفلاني من الشهر والسنة حتى لا تضيع، هذه وثيقة. فتعجب الرجل! والحقيقة أنه محل التعجب، هل أنت تُعْلِمُ الله- عز وجل- بما تريد؟ الله يعلم ما توسوس به نفسك. هل نعلم الله بعدد الركعات والأوقات؟ لا داعي له، الله يعلم هذا. فالنية محلها القلب.
ولكن كما نعلم أن الصلوات تنقسم إلى أقسام: نفل مطلق، ونفل معين، وفريضة. الفرائض خمس: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.إذا جئت إلى المسجد في وقت الفجر، فماذا تريد أن تصلي؟ أتريد أن تصلي المغرب؟! لا، بل الفجر. جئت وكبرت وأنت ناوٍ الصلاة، لكن غاب عن ذهنك أنها الفجر. وهناك مسألة: إذا جئت وكبرت، وغاب عن ذهنك أي صلاة هي، وهذا يقع كثيرا، لا سيما إذا جاء بسرعة يخشى أن تفوته الركعة، فمثلا جئت وحضرت وكبرت ولكنك لم تستحضر أنك تريد الفجر. فهنا لا حاجة، ووقوع هذه الصلاة في وقتها دليل على أنه إنما أردت هذه الصلاة. ولهذا لو سألك أي واحد: هل أردت الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء؟ لقال: أبدًا، ما أردت إلا الفجر. إذاً لا حاجة إلى أن أنوي أنها الفجر، صحيح أنني إن نويتها الفجر أكمل، لكن أحيانا يغيب عن الذهن التعيين، فنقول: يعينها الوقت. إذاً الفرائض يكون تعيينها على وجهين: الوجه الأول: أن يعينها بعينها بقلبه أنه نوى الظهر مثلا، وهذا واضح. الوجه الثاني: الوقت، فما دمت تصلي الصلاة في هذا الوقت فهي هي الصلاة. هذا الوجه الثاني إنما يكون في الصلاة المؤداة في وقتها، أما لو فُرض أن على إنسان صلوات مقضية، كما لو نام يوما كاملا عن الظهر والعصر والمغرب، فهنا إذا أراد أن يقضي لابد أن يعينها بعينها، لأنه لا وقت لها. النوافل المعينة، مثل الوتر وركعتي الضحى والرواتب للصلوات الخمس، فهذه لابد أن تعينها بالاسم، لكن بالقلب لا باللسان، فإذا أردت أن تصلي الوتر مثلا وكبرت ولكن ما نويت الوتر، وفي أثناء الصلاة نويتها الوتر، فهذا لا يصح، لأن الوتر نفل معين، والنوافل المعينة لابد أن تعين بعينها. أما النوافل المطلقة فلا تحتاج إلى نية إلا نية الصلاة ؛ فإنه لا بد منها , مثل إنسان في الضحى توضأ وأراد أن يصلي ما شاء الله ، نقول : تكفي نية الصلاة . وذلك لأنها صلاة غير معينة . إذا أراد الإنسان أن ينتقل في أثناء الصلاة من نية إلى نية، هل هذا ممكن؟ ننظر، الانتقال من معين إلى معين، أو من مطلق إلى معين لا يصح. مثال المطلق: إنسان قام يصلي صلاة نافلة مطلقة، وفي أثناء الصلاة ذكر أنه لم يصلِّ راتبة الفجر، فنواها لراتبة الفجر. نقول: لا تصح لراتبة الفجر، لأنه انتقال من مطلق إلى معين، والمعين لابد أن تنويه من أوله، فراتبة الفجر من التكبير إلى التسليم. ومثال معين إلى معين: رجل قام يصلي العصر، وفي أثناء صلاته ذكر أنه لم يصل الظهر، أو أنه صلاها بغير وضوء، فقال: الآن نويتها للظهر، فهل تصح للظهر أم لا؟ هنا لا تصح للظهر، لأنه من معين إلى معين، ولا تصح أيضا صلاة العصر التي ابتدأ،لأنه قطعها بانتقاله إلى الظهر. إذاً لا تصح ظهرا ولا عصرا، فهي لا تصح عصرا لأنه قطعها، ولا ظهرا لأنه لم يبتدئها ظهرا، وصلاة الظهر من تكبيرة الإحرام إلى السلام. أما الانتقال من معين إلى مطلق فانه يصح ولا بأس، مثل إنسان شرع في صلاة الفريضة، ثم لما شرع ذكر أنه على ميعاد لا يمكنه أن يتأخر فيه، فنواها نفلا، فإنها تصح إذا كان الوقت متسعا ولم يفوِّت الجماعة.هذان شرطان: الشرط الأول: إذا كان الوقت متسعا، والثاني: إذا لم يفوِّت الجماعة. فمثلا إذا كان في صلاة جماعة فلا يمكن أن يحولها إلى نفل مطلق، لأن هذا يستلزم أن يدع صلاة الجماعة. إذا كان الوقت ضيقا فلا يصح أن يحولها إلى نفل مطلق، لأن صلاة الفريضة إذا ضاق وقتها لا يتحمل الوقت سواها، لكن الوقت في سعة والجماعة قد فاتته، نقول: لا بأس أن تحولها إلى نفل مطلق وتسلم من ركعتين وتذهب إلى وعدك، ثم بعد ذلك تعود إلى فريضتك، فصار الانتقال ثلاثا: 1- من مُطلقٍ إلى معيَّن: لا يصح المعين ويبقى المطلق صحيحا. 2- من مُعيَّن إلى معيَّن: يبطل الأول ولا ينعقد الثاني. 3- من مُعيَّن إلى مُطلق: يصح ويبقى المعين عليه.
نيَّةُ الإمامةِ والائتمام:
الجماعة تحتاج إلى إمام ومأموم، وأقلها اثنان: إمام ومأموم. وكلما كان أكثر فهو أحب إلى الله، ولابد من نية المأموم والإتمام، وهذا شئ متفق عليه، يعني إذا دخلت في جماعة فلابد أن تنوي الائتمام بإمامك الذي دخلت معه. ولكن- كما قلنا- النية لا تحتاج إلى كبير عمل، لأن من أتى إلى المسجد فإنه قد نوى أن يأتم.
أما الإمام فقد اختلف العلماء- رحمهم الله- هل يجب أن ينوي أن يكون أو لا يجب؟!فقال بعض أهل العلم: لابد أن ينوي أنه الإمام، وعلى هذا لو جاء رجلان ووجدا رجلاً يصلي ونويا أن يكون الرجل إماما لهما، فصفَّا خلفه وهو لا يدري بهما، لكن هم نويا أنه إمام لهما وصارا يتابعانه، فمن قال أنه لابد للإمام أن ينوي الإمامة قال: إن صلاة الرجلين لا تصح، وذلك لأن الإمام لم ينوِ الإمامة. ومن قال إنه لا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة قال: إن صلاة هذين الرجلين صحيحة، لأنهما ائتما به. فالأول: هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والثاني: هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في رمضان وحده، فدخل أناس المسجد فصلوا خلفه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما دخل الصلاة لم ينوِ أن يكون إماما. واستدلوا كذلك بأن ابن عباس- رضي الله عنهما- بات عند النبي صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل قام يصلي وحده، فقام ابن عباس فتوضأ و دخل معه في الصلاة ،
أخرجه البخاري، ومسلم.
. ولكن لا شك أن هذا الثاني ليس فيه دلالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نوى الإمامة، لكن نواها في أثناء الصلاة، ولا بأس بأن ينويها في أثناء الصلاة.
وعلى كل حال الاحتياط في هذه المسألة أن نقول: إنه إذا جاء رجلان إلى شخص يصلي فلينبهاه على أنه إمام لهما، فإن سكت فقد أقرَّهما، وإن رفض وأشار بيده أن لا تصليا خلفي فلا يصليا خلفه. هذا هو الأحوط والأولى.
ثانيًا: هل يشترط أن تتساوى صلاة الإمام مع صلاة المأموم في جنس المشروعية؟ بمعنى: هل يصح أن يصلي الفريضة خلف من يصلي النافلة، أو أن يصلي النافلة خلف من يصلي الفريضة؟
ننظر في هذا: أما الإنسان الذي يصلي نافلة خلف من يصلي فريضة فلا بأس بهذا؛ لأن السنة قد دلت على ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم انفتل من صلاة الفجر ذات يوم في مسجد الخيف بمنى، فوجد رجلين لم يصليا، فقال: ما منعكما أن تصليا في القوم؟ قالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا- يحتمل أنهما صليا في رحالهما لظنهما أنهما لا يدركان صلاة الجماعة، أو لغير ذلك من الأسباب- فقال: (( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)) أخرجه أبو داود، والترمذي .
((فإنها)) أي: الثانية؛ لأن الأولى حصلت بها الفريضة وانتهت وبرئت الذمة. إذًا إذا كان المأموم هو الذي يصلي النافلة والأمام هو الذي يصلي الفريضة فلا باس بذلك، كما دلت عليه هذه السنة.
أما العكس: إذا كان الإمام يصلي النافلة والمأموم يصلي الفريضة، وأقرب مثال لذلك في أيام رمضان، إذا دخل الإنسان وقد فاتته صلاة العشاء ووجد الناس يصلون صلاة التراويح، فهل يدخل معهم بنية العشاء أو يصلي الفريضة وحده ثم يصلي التراويح؟
هذا محل خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: لا يصح أن يصلي الفريضة خلف النافلة؛ لأن الفريضة أعلى ، ولا يمكن أن تكون صلاة المأموم أعلى من صلاة الإمام.
ومنهم من قال: بل يصح أن يصلي الفريضة خلف النافلة؛ لأن السنة وردت بذلك، وهي أن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- كان يصلي مع النبي- صلى الله عليه وسلم- صلاة العشاء،ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. فهي له نافلة ولهم فريضة، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم؟ فالجواب عن ذلك أن نقول: أن كان قد علم فقد تم الاستدلال؛ لأن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- قد شُكِيَ إلى الرسول- عليه الصلة والسلام- في كونه يطوِّل صلاة العشاء، فالظاهر- والله أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم- أُخبر بكل القضية وبكل القصة.
وإذا قُدر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يعلم أن معاذًا معه، ثم يذهب إلى قومه ويصلي بهم، فإن رب الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم، وهو الله جلا وعلا، لا يخفى عليه شي في الأرض ولا في السماء، وإذا كان الله قد علم ولم يُنزل على نبيه إنكارًا لهذا العمل دل هذا على جوازه؛ لأن الله تعالى لا يقرُّ عباده على شيء غير مشروع لهم إطلاقًا. فتم الاستدلال حئينذ على كل تقدير.
إذًا فالصحيح أنه يجوز أن يصلي الإنسان صلاة الفريضة خلف من يصلي صلاة النافلة، والقياس الذي ذُكر استدلالًا على المنع قياس في مقابلة النص فيكون مطروحًا فاسدًا لا يعتبر.
إذن إذا أتيت في أيام رمضان والناس يصلون صلاة التراويح ولم تصلِّ العشاء فادخل معهم بنية صلاة العشاء، ثم إن كنت قد دخلت في أول ركعة، فإذا سلم الإمام فصلِّ ركعتين لتتم الأربع، وإن كنت قد دخلت في الثانية فصلِّ إذا سلَّم الإمام ثلاث ركعات؛ لأنك صليت مع الإمام ركعة ، وبقي عليك ثلاث ركعات . وهذا منصوص الإمام أحمد- رحمه الله تعالى- مع أن مذهبه خلاف ذلك، لكن منصوصه الذي نص عليه هو شخصيًّا أن هذا جائز.
إذن تلخَّصَ الآن: من صلى فريضة خلف من يصلي فريضة جائز. من صلى فريضة خلف من يصلي نافلة فيها خلاف. من صلى نافلة خلف من يصلي فريضة جائز قولًا واحدًا.
المسألة الثالثة: في جنس الصلاة، هل يشترط أن تتفق صلاة الإمام والمأموم في نوع الصلاة؟ أي : ظهر مع ظهر، وعصر مع عصر، وهكذا، أم لا؟
ج- في هذا أيضًا خلاف، فمن العلماء من قال: يجب أن تتفق الصلاتان، فيصلِّي الظهر خلف من يصلي الظهر، ويصلي العصر خلف من يصلي العصر، ويصلي المغرب خلف من يصلي المغرب، ويصلي العشاء خلف من يصلي العشاء، ويصلي الفجر خلف من يصلي الفجر، وهكذا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)) أخرجه البخاري،ومسلم .
ومن العلماء من قال: لا يشترط، فيجوز أن تصلي العصر خلف من يصلي الظهر، أو الظهر خلف من يصلي العصر، أو العصر خلف من يصلي العشاء؛ لأن الإتمام في هذه الحال لا يتأثر، وإذا جاز أن يصلي الفريضة خلف النافلة مع اختلاف الحكم، فكذلك اختلاف الاسم لا يضر،
وهذا القول أصح،
فإذا قال قائل: حضرت لصلاة العشاء بعد أن أُذِّن، ولما أقيمت الصلاة تذكرت أنني صليت الظهر بغير وضوء، فكيف أصلي الظهر خلف من يصلي العشاء؟
نقول له: ادخل مع الإمام وصلِّ الظهر، أنت نيتك الظهر والإمام نيته العشاء ولا يضر، (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) و أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه))، فليس معناه فلا تختلفوا عليه في النية؛ لأنه فصَّل وبيَّن فقال: (( فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا)) أي: تابعوه ولا تسبقوه، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضًا.
وهذا البحث يفرع عليه بحث آخر: إذا اتفقت الصلاتان في العدد والهيئة فلا إشكال في هذا، مثل ظهر خلف عصر. العدد واحد والهيئة واحدة، هذا لا إشكال فيه،
لكن إذا اختلفت الصلاتان، بأن كانت صلاة المأموم ركعتين والإمام أربعًا، أو بالعكس، أو المأموم ثلاثًا والإمام أربعًا، أو بالعكس. فنقول: إن كانت صلاة المأموم أكثر فلا إشكال، مثل رجل دخل المسجد يصلي المغرب، ولما أقيمت الصلاة ذكر أنه صلى العصر بلا وضوء، فهنا صار عليه صلاة العصر. نقول: ادخل مع الإمام بنية صلاة العصر، وإذا سلم الإمام فإنك تأتى بواحدة لتتم لك الأربع. وهذا لا إشكال فيه.
أما إذا كانت صلاة الإمام أكثر من صلاة المأموم فهذا نقول: إن دخل المأموم في الركعة الثانية فما بعدها فلا إشكال، وإن دخل في الركعة الأولى فحينئذ يأتي الإشكال، ولنمثل: إذا جئت والإمام يصلي العشاء، وهذا يقع كثيرًا في أيام الجمع، يأتي الإنسان من البيت والمسجد جامع للمطر و ما أشبه ذلك، فإذا جاء وجدهم يصلون العشاء، لكن وجدهم يصلون في الركعتين الأخيرتين، نقول: ادخل معهم بنيَّة المغرب، صل الركعتين، وإذا سلَّم الإمام تأتي بركعة ولا إشكال.
وإذا جئت ووجدتهم يصلون العشاء الآخرة لكنهم في الركعة الثانية، نقول: ادخل معهم بنية المغرب وسلم مع الإمام ولا يضر؛ لأنك ما زدت ولا نقصت، هذا أيضًا لا إشكال فيه،
وعند بعض الناس فيه إشكال: يقول: إذا دخلت معه في الركعة الثانية ثم جلست في الركعة التي هي للإمام الثانية، وهي لك الأولى، فتكون جلست في الأولى للتشهد.
نقول: هذا لا يضر، ألسْتَ إذا دخلت مع الإمام في صلاة الظهر في الركعة الثانية فالإمام سوف يجلس للتشهد وهي لك الأولى؟ هذا نفسه ولا إشكال، وإنما الإشكال إذا جئت إلى المسجد ووجدهم يصلون العشاء وهم في الركعة الأولى ودخلت معهم في الركعة الأولى، حيئنذ ستصلي ثلاثًا مع الإمام والإمام سيقوم للرابعة، فماذا تصنع؟ إن قمت معه زدت ركعة، صليت أربعًا والمغرب ثلاث لا أربع، وإن جلست تخلفت عن الإمام، فماذا تصنع؟ نقول: اجلس، وإذا كنت تريد أن تجمع فانوِ مفارقة الإمام و اقرأ التحيات وسلم، ثم ادخل مع الإمام فيما بقي من صلاة العشاء؛ لأنك يمكن أن تدركه.
أما إذا كنت لا تنوي الجمع، أو ممن لا يحق له الجمع، فإنك في هذه الحال مخيَّر، إن شئت فاجلس للتشهد وانتظر الإمام حتى يكمل الركعة ويتشهد وتسلم معه، وإن شئت فانوِ الانفراد وتشهَّد وسلِّم.
هذا الذي ذكرناه هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-.
ونية الانفراد هنا للضرورة؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يزيد في المغرب على ثلاث، فالجلوس لضرورة شرعية، ولا بأس بهذا، ومما يدخل في قوله: ((وتقيم الصلاة)) أركان الصلاة،
والأركان هي الأعمال القولية والفعلية التي لا تصح الصلاة إلا بها، ولا تقوم إلا بها. فمن ذلك: تكبيرة الإحرام: أن يقول الإنسان عند الدخول في الصلاة: ((الله أكبر)) لا يمكن أن تنعقد الصلاة إلا بذلك فلو نسيَ الإنسان تكبيرة الإحرام، جاء ووقف في الصف ثم نسي وشرع في القراءة وصلى فصلاته غير صحيحة وغير منعقدة إطلاقًا؛ لأن تكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة إلا بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل علمه كيف يصلي، قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبِّر)) أخرجه البخاري، ومسلم.
فلابد من التكبير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مداومًا على ذلك.
ومن ذلك أيضًا: قراءة الفاتحة: فإن قراءة الفاتحة ركن لا تصح الصلاة إلا به، لقوله تعالى: ﴿فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل:20]، وهذا أمر.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبهم في قوله : ﴿مَا تَيَسَّرَ﴾ وأن هذا هو الفاتحة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) أخرجه البخاري ومسلم. وقال: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج)) أخرجه مسلم. أي: فاسدة غير صحيحة.
فقراءة الفاتحة ركن على كل مصلٍّ: الإمام، والمأموم، والمنفرد؛ لأن النصوص الواردة في ذلك عامة لم تستثنِ شيئًا، وإذا لم يستثنِ الله تعالى ورسوله شيئا فإن الواجب الحكم بالعموم؛ لأنه لو كان هناك مستثنى لبيَّنه الله ورسوله، كما قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل:89] .
ولم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح صريح في سقوط الفاتحة عن المأموم، لا في السريَّة والجهريَّة، لكن الفرق بين السرية والجهرية، أن الجهرية لا تقرأ فيها إلا الفاتحة، وتسكت وتسمع لقراءة إمامك.
أما السرية فتقرأ الفاتحة وغيرها حتى يركع الإمام، لكن دلَّت السنة على أنه يستثنى من ذلك ما إذا جاء الإنسان والإمام راكع، فإنه إذا جاء والإمام راكع تسقط عنه قراءة الفاتحة، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي بكرة- رضي الله عنه- أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم راكع في المسجد، فأسرع وركع قبل أن يدخل في الصف، ثم دخل في الصف، فلما سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أيُّكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟!)) قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله! قال: (( زادك الله حرصًا ولا تعد)) أخرجه البخاري؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الذي دفع أبا بكرة لسرعته والركوع قبل أن يصل إلى الصف هو الحرص على إدراك الركعة، فقال له: ((زادك الله حرصا ولا تعد)) أي: لا تعد لمثل هذا العمل فتركع قبل الدخول في الصف وتسرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) أخرجه البخاري ، ومسلم.
ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الركعة التي أسرع لإدراكها، ولو كان لم يدركها لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يؤخِّر البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه مبلغ، والمبلغ يبلغ متى أحتيج إلى التبليغ،
فإذا كان الرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يقل له إنك لم تدرك الركعة عُلِمَ أنه قد أدركها، وفي هذه الحال تسقط عنه الفاتحة.
وهناك تعليل أيضًا مع الدليل، وهو أن الفاتحة إنما تجب مع القيام،والقيام في هذه الحال قد سقط من أجل متابعة الإمام، فإذا سقط القيام سقط الذكر الواجب فيه، فصار الدليل والتعليل يدلان على أن من جاء والإمام راكع فإنه يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم ولا يقرأ، بل يركع، لكن أن كبر للركوع مرة ثانية فهو أفضل، وإن لم يكبر فلا حرج، وتكفيه التكبيرة الأولى. ويجب أن يقرأ الإنسان الفاتحة وهو قائم، وأما ما يفعله بعض الناس إذا قام الإمام للركعة الثانية مثلًا، تجده يجلس ولا يقوم مع الإمام وهو يقرأ الفاتحة، فتجده يجلس إلى أن يصل نصف الفاتحة، ثم يقوم وهو قادر على القيام: نقول لهذا الرجل: أن قراءتك للفاتحة غير صحيحة؛ لأن الفاتحة يجب أن تُقرأ في حال القيام، وأنت قادر على القيام وقد قرأت بعضها وأنت قاعد، فلا تصح هذه القراءة. أما ما زاد عن الفاتحة فهو سنة في الركعة الأولى والثانية، وأما في الركعة الثالثة في المغرب، أو في الثالثة والرابعة في الظهر والعصر والعشاء فليس بسنة، فالسنة الاقتصار فيما بعد الركعتين على الفاتحة،وإن قرأ أحيانًا في العصر والظهر شيئًا زائدًا عن الفاتحة فلا بأس به، لكن الأصل الاقتصار على الفاتحة في الركعتين اللتين بعد التشهد الأول إن كانت رباعية، أو الركعة الثالثة إن كانت ثلاثية.
ومن أركان الصلاة: الركوع، وهو الانحناء تعظيمًا لله عز وجل؛ لأنك تستحضر أنك واقف بين يدي الله، فتنحني تعظيمًا له عز وجل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل)) أخرجه مسلم.
أي: قولوا سبحان ربي العظيم؛ لأن الركوع تعظيم بالفعل، وقول: (( سبحان ربي العظيم)) تعظيم بالقول، فيجتمع التعظيمان بالإضافة إلى التعظيم الأصلي وهو تعظيم القلب لله؛ لأنك لا تنحني هكذا إلا لله تعظيمًا له، فيجتمع في الركوع ثلاثة تعظيمات: 1- تعظيم القلب. 2- تعظيم الجوارح. 3- تعظيم اللسان. فالقلب: تستشعر أنك ركعت لله، واللسان: تقول سبحان ربي العظيم، والجوارح: تُحني ظهرك.
والواجب في الركوع الانحناء بحيث يتمكن الإنسان من مسِّ ركبتيه بيديه. فالانحناء اليسير لا ينفع، فلابد من أن تِهْصِرَ ظهرك حتى تتمكن من مسِّ ركبتيك بيديك.
وقال بعض العلماء: إن الواجب أن يكون إلى الركوع التام أقرب منه إلى القيام التام والمؤدى متقارب. المهم أنه لابد من هصر الظهر.
ومما ينبغي في الركوع أن يكون الإنسان مستوي الظهر لا مُحْدَودِبًا، وأن يكون رأسه محاذيًا لظهره، وأن يضع يديه على ركبتيه مُفَرَّجتي الأصابع، وأن يجافيَ عضديه عن جنبيه، ويقول سبحان ربي العظيم، يكِّررها ويقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي )) أخرجه البخاري، ومسلم .
ويقول: ((سبوحٌ قدُّوسٌ ربُّ الملائكة والروح)) أخرجه مسلم.
ومن أركان الصلاة: السجود، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ [الحج:77]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( أُمرت أن نسجد على سبعة أعظم: على الجبهة- و أشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) أخرجه البخاري ومسلم ،
فالسجود لابد منه؛ لأنه ركن لا تتم الصلاة إلا به، ويقول في سجوده ((سبحان ربي الأعلى)).
وتأمل الحكمة أنك في الركوع تقول: ((سبحان ربي العظيم)) ؛ لأن الهيئة هيئة تعظيم، وفي السجود تقول: ((سبحان ربي الأعلى)) ؛ لأن الهيئة هيئة نزول، فالإنسان نزَّل أعلى ما في جسده- وهو الوجه - إلى أسفل ما في جسده- وهو القدمين- فترى في السجود أن الجبهة والقدمين في مكان واحد، وهذا غاية ما يكون في التنزيه، ولهذا تقول: ((سبحان ربي الأعلى)) أي أُنَزِّهُ ربي الأعلى الذي هو فوق كل شئ عن كل سُفلٍ ونُزول.
أما أنا فمنزل رأسي وأشرف أعضائي إلى محل القدمين ومداسها، فتقول: ((سبحان ربي الأعلى)) تكررها ما شاء الله، ثلاثًا أو أكثر حسب الحال، وتقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي )) ، وتقول ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح )) ، وتُكثر من الدعاء بما شئت من أمور الدين ومن أمور الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) ، فأكثر من الدعاء بما شئت، من سؤال الجنة، والتعوذ من النار، وسؤال علم نافع، وعمل صالح، وإيمان راسخ، وهكذا. وسؤال بيت جميل،وامرأة صالحة، وولد صالح، وسيارة، وما شئت من خير الدين والدنيا؛ لأن الدعاء عبادة ولو في أمور الدنيا، قال الله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60]، وقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186] . وفي هذه الآيام العصيبة ينبغي أن نُطيل السجود، وأن نكثر من الدعاء بأن يأخذ الله على أيدي الظالمين المعتدين، ونلح ولا نستبطئ الإجابة؛ لأن الله حكيم قد لا يستجيب الدعوة بأول مرة أو ثانية أو ثالثة، من أجل أن يعرف الناس شدة افتقارهم إلى الله فيزدادوا دعاء، والله- سبحانه وتعالى- أحكم الحاكمين- حكمته بالغة لا نستطيع أن نصل إلى معرفتها، ولكن علينا أن نفعل ما أُمرنا به من كثرة الدعاء،
ويسجد الإنسان بعد الرفع من الركوع، ويسجد على ركبتيه أولًا ثم كفيه، ثم جبهته وأنفه، ولا يسجد على اليدين أوَّلًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك بروك البعير)) أخرجه أبو داود ،
وبروك البعير يكون على اليدين أولًا كما هو مشاهد، كل من شاهد البعير إذا بركت يجد أنها تقدم يديها، فلا تقدم اليدين، والرسول- عليه الصلاة والسلام- نهى عن ذلك؛ لأن تشبه بني آدم بالحيوان - ولا سيما في الصلاة- أمر غير مرغوب فيه. ولم يذكر الله تعالى تشبيه بني آدم بالحيوان إلا في مقام الذم. استمع إلى قول الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف:175،176]، وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ [الجمعة:5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود في قَيْئِهِ)) أخرجه البخاري، ومسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارًا)) أخرجه الإمام أحمد.
فأنت ترى أن تشبيه بني آدم بالحيوان لم يكن إلا في مقام الذم، ولهذا نهى المصلِّيَ أن يبرك كما يبرك البعير فيقدم يديه! بل قدِّم الركبتين إلا إذا كان هناك عذر، كرجل كبير يشق عليه أن يُنزل الركبتين أولًا، فلا حرج أو إنسان مريض،أو إنسان في ركبتيه أذىً، وما أشبه ذلك.
ولا بد أن يكون السجود على الأعضاء السبعة: الجبهة، والأنف تبعٌ لها، والكفين، والركبتين، وأطراف القدمين. فهذه سبعة أمرنا أن نسجد عليها كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي أمرنا ربنا- عز وجل- فنقول: سمعًا وطاعة، ونسجد على الأعضاء السبعة في جميع السجود، فما دمنا ساجدين فلا يجوز أن نرفع شيئًا من هذه الأعضاء، بل لابد أن تبقى هذه الأعضاء ما دمنا ساجدين.
وفي حال السجود ينبغي للإنسان أن يضم قدميه بعضهما إلى بعض ولا يفرج، أما الركبتان فلم يرد فيهما شئ، فتبقى على ما هي عليه على الطبيعة. وأما اليدان فتكونان على حذو المنكبين، أي: الكتفين، أو تقدمهما قليلًا حتى تسجد بينهما، فلها صفتان: الصفة الأولى أن تردها حتى تكون على حذاء الكتف، والصفة الثانية: أن تقدمها قليلًا حتى تكون على حذاء الجبهة، كلتاهما وردتا عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وينبغي أن تُجافي عَضُديك عن جنبيك، وأن ترفع ظهرك ، إلا إذا كنت في الصف وخفت أن يتأذى جارك من مجافاة العضدين فلا تؤذ جارك؛ لأنه لا ينبغي أن تفعل سنة يتأذى بها أخوك المسلم وتشوش عليه.
وقد رأيت بعض الإخوة الذين يحبون أن يطبِّقوا السنة يمتدُّون في حال السجود امتدادًا طويلًا، حتى تكاد تقول إنهم منبطحون، وهذا لا شك أنه خلاف السنة، وهو بدعة. بل السنة أن ترفع ظهرك وأن تعلو فيه.
وهذه الصفة التي أشرت إليها من بعض الإخوة كما أنها خلاف السنة ففيها إرهاق عظيم للبدن؛ لأن التحمل في هذه الحال يكون على الجبهة والأنف، وتجد الإنسان يضجر من إطالة السجود، ففيها مخالفة السنة وتعذيب البدن، فلهذا ينبغي إذا رأيتم أحدًا يسجد على هذه الكيفية أن تُرشدوه إلى الحق، وتقولوا له: هذا ليس بسنة.
وينبغي في حال السجود أيضًا أن يكون الإنسان خاشعًا لله - عز وجل- مستحضرًا علو الله سبحانه وتعالى؛ لأنك سوف تقول: سبحان ربي الأعلى، أي تنزيها له بعلوه- عز وجل- عن كل سُفلٍ ونزول، ونحن نعتقد بأن الله عالٍ بذاته فوق جميع مخلوقاته، كما قال الله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [الأعلى:1]، وإثبات علو الله في القرآن والسنة أكثر من أن يحصر.
والإنسان إذا دعا يرفع يديه إلى السماء إلى الله عز وجل، وفي السماء فوق كل شئ، وقد ذكر الله أنه استوى على عرشه في سبع آيات من القرآن، والعرش أعلى المخلوقات، والله فوق العرش جلا وعلا.
| |
|