إبراهيم باشا Admin
عدد المساهمات : 703 تاريخ التسجيل : 23/02/2013 الموقع : http://www.ansarsonna.com
| موضوع: شرح أحاديث رياض الصالحين . باب المراقَبة ( جزء 1 ) . شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين . الإثنين ديسمبر 14, 2015 7:39 pm | |
|
شرح أحاديث رياض الصالحين . باب المراقَبة ( جزء 1 ) .
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين .
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا .
قال الله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء:218،219]،
وقال الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾[الحديد:4]،
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران:5]،
وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر:14]،
وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19] ،
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
الشرح :
لما ذكر المؤلف- رحمه الله - باب الصدق، وذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك أَعْقَبَ هذا بباب المراقبة .
المراقبة لها وجهان:
الوجه الأول: أن تراقب الله عز وجل. والوجه الثاني: أن الله تعالى رقيب عليك كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾[الأحزاب:52] .
أما مراقبتك لله فأن تعلم أن الله- تعالى- يعلم كل ما تقوم به من أقوال وأفعال واعتقادات ، كما قال الله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الذي يراك حين تقوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء:217ـ 219] ،
يراك حين تقوم، أي: في الليل حين يقوم الإنسان في مكان خال لا يطلع عليه أحد، فالله سبحانه وتعالى يراه. حتى ولو كان في أعظم ظلمة وأحلَكِ ظلمة؛ فإن الله تعالى يراه.
وقوله: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ أي : وأنت تتقلَّب في الذين يسجدون في هذه الساعة ، يعني تقلُّبكَ فيهم، أي: معهم، فإن الله- سبحانه وتعالى- يرى الإنسان حين قيامه وحين سجوده.
وذَكَرَ القيام والسجود؛ لأن القيام في الصلاة أشرف من السجود بذكره، والسجود أفضل من القيام بهيئته.
أما كون القيام أفضل من السجود بذكره؛ فلأن الذكر المشروع في القيام هو قراءة القرآن، والقرآن أفضل الكلام . أما السجود فهو أشرف من القيام بهيئته؛ لأن الإنسان الساجد أقرب ما يكون من ربه عز وجل ،كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) أخرجه مسلم . ولهذا أمرنا أن نُكثر من الدعاء في السجود،
كذلك من مراقبتك لله، أن تعلم أن الله يسمعك، فأي قول تقوله؛ فإن الله تعالى يسمعك ؛ كما قال الله:﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف:80] ،
بلى: يعني نسمع ذلك. ومع هذا فإن الذي تتكلم به - خيرًا كان أم شرًا، معلنًا أم مسرًّا- فإنه يُكتب لك أو عليك؛ كما قال الله تبارك وتعالى :﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]،
فراقب هذا الأمر ، وإياك أن تخرج من لسانك قولًا تحاسب عليه يوم القيامة،
اجعل دائما لسانك يقول الحق أو يصمت، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرًا أو ليصمت)) .
الثالث: أن تراقب الله في سرِّك وفي قلبك، انظر ماذا في قلبك من الشرك بالله والرياء، والانحرافات، والحقد على المؤمنين،وبغضاء، وكراهية،ومحبَّةٍ للكافرين ، وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل .
راقب قلبك، تَفَقَّدهُ دائمًا؛ فإن الله يقول:﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾[ق:16] ، قبل أن ينطق به.
فراقب الله في هذه المواضع الثلاثة: في فعلك ، وفي قولك، وفي سريرتك، وفي قلبك، حتى تتم لك المراقبة،
ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
اعبد الله كأنك تراه ، كأنك تشاهده رأي عين، فإن لم تكن تراه فانزل إلى المرتبة الثانية: (( فإنه يراك)). فالأول: عبادة رغبة وطمع، أن تعبد الله كأنك تراه،
والثاني: عبادة رهبةٍ وخوف، ولهذا قال: (( فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
فلابد أن تراقب ربك، وأن تعلم أن الله رقيب عليك،
أي شيء تقوله، أو تفعله، أو تضمره في سرِّك فالله تعالى عليم به، وقد ذكر المؤلف- رحمه الله- من الآيات ما يدل على هذا، فبدأ بالآية التي ذكرناها، وهي قوله- تعالى- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء: 217ـ 220] .
الآية الثانية التي ساقها المؤلف- رحمه الله تعالى- في باب المراقبة: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4]،
الضمير ﴿هو﴾ يعود على الله، أي: الله سبحانه وتعالى مع عباده أينما كانوا، في برٍّ أو بحرٍ، أو جوٍّ، أو في ظلمةٍ، أوفي ضياء. وفي أي حال هو معكم أينما كنتم.
وهذا يدل على كمال إحاطته عز وجل بنا علمًا وقدرة وسلطانًا وتدبيرًا وغير ذلك.
ولا نعني أنه سبحانه وتعالى معنا في نفس المكان الذي نحن فيه؛ لأن الله فوق كل شيء، كما قال الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:5] ، وقال ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[الأنعام: 18] وقال تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك:16] ، وقال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255] ، وقال ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [الأعلى:1] ،
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أنه فوق كل شيء، لكنه عز وجل ليس كمثله شيء في جميع نعوته وصفاته، هو عليّ في دُنُوِّه، قريب في علوِّه جل وعلا، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186] ،
ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في الأرض، لأننا لو توهمنا هذا، لكان فيه إبطال لعلو الله سبحانه وتعالى،
وأيضًا فإن الله سبحانه لا يسعه شيء من مخلوقاته: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [البقرة:255] . الكرسي محيط بالسماوات والأرض كلها ، والكرسي هو موضع قدمي الرحمن عز وجل، والعرش أعظم وأعظم ، كما جاء في الحديث: ((إن السموات السبع والأرضيين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة أُلقيت في فلاة من الأرض)). حلقة كحلقة المغفر صغيرة أُلقيت في فلاة من الأرض، أي مكان متسع، نسبة هذه الحلقة إلى الأرض ليست بشيء. قال : (( وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة)) الحديث ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره،وأخرجه أيضًا ابن جرير الطبري في تفسيره ، والحديث صححه الشيخ الألباني لطرقه .
فما بالك بالخالق جل وعلا !
الخالق - سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يكون في الأرض ، لأنه - سبحانه وتعالى- أعظم من أن يُحيط به شيء من مخلوقاته ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم﴾ [الحديد:4] .
واعلم أن المعيَّة التي أضافها الله إلى نفسه تنقسم بحسب السياق والقرائن.
فتارة يكون مقتضاها الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسلطانًا وتدبيراً وغير ذلك، مثل هذه الآية :﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم﴾ ومثل قوله تعالى:﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ﴾ [المجادلة:7] .
وتارةً يكون المراد بها التهديد والإنذار، كما في قوله تعالى:﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [النساء:108] ، فإن هذا تهديد وإنذار لهم أن يُبَيِّتُوا ما لا يرضى من القول يكتمونه عن الناس، يظنون أن الله لا يعلم، والله- سبحانه - عليم بكل شيء.
وتارةً يُراد بها النصر والتأييد والتثبيت وما أشبه ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:128]، وكما في قوله تعالى:﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:35] ، والآيات في هذا كثيرة.
وهذا القسم الثالث من أقسام المعيَّة تارةً يضاف إلى المخلوق بالوصف، وتارةً يضاف إلى المخلوق بالعين. فقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:128] ، هذا مضاف إلى المخلوق بالوصف، فأي إنسان يكون كذلك فالله معه.
وتارةً يكون مضافًا إلى المخلوق بعين الشخص، مثل قوله تعالى:﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40]، فهذا مضاف إلى الشخص بعينه، وهي للرسول - عليه الصلاة والسلام- وأبي بكر - رضي الله عنه- وهما في الغار، لما قال أبو بكر للرسول النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا؛ لأن قريشًا كانت تطلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر- رضي الله عنه- بكل جدٍّ! ما من جبل إلا صعدت عليه، وما من واد إلا هبطت فيه، وما من فلاة إلا بحثت، وجعلت لمن يأتي بالرسول- عليه الصلاة والسلام- وأبي بكر مائتي بعير، مائةً للرسول، ومائةً لأبي بكر، وتعب الناس وهم يطلبونهما، ولكن الله معها، حتى وقفوا على الغار ،يقول أبو بكر: لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فيقول له الرسول عليه الصلاة والسلام : ((لا تحزن إن الله معنا ، فما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟))
والله ظنُّنا لا يغلبهما أحد ، ولا يقدر عليهما أحد. وفعلًا هذا الذي حصل ؛ ما رأوهما مع عدم المانع، فلم يكن هناك عشٌ كما يقولون ولا حمامة وقعت على الغار ، ولا شجرة نبتت على فمِ الغار ، ما كان إلا عناية الله عز وجل ؛ لأن الله معهما .
وكما في قوله ـ سبحانه ـ لموسى وهارون ، لما أمر الله موسى وأرسله إلى فرعون هو وهارون :﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طـه: 45،46] . الله أكبر: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ إذا كان الله معهما هل يمكن أن يضرهما فرعون وجنوده ؟ لا يمكن ، فهذه معيَّة خاصة مقيَّدة بالعين : ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ .
المهم أنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ مع الخلق ، لكنه فوق عرشه ولا يساميه أحد في صفاته ، ولا يدانيه أحد في صفاته ، ولا يمكن أن تورد على ذهنك أو على غيرك كيف يكون الله معنا وهو في السماء ؟
نقول : الله ـ عز وجل ـ لا يقاس بخلقه ، مع أن العلو والمعية لا منافاة بينهما حتى في المخلوق .
فلو سألنا سائل : أين موضع القمر ؟ لقلنا : في السماء ، كما قال الله :﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ [نوح:16] ، وإذا قال : أين موضع النجوم ؟ قلنا في السماء ، واللغة العربية يقول المتكلمون فيها : ما زلنا نسير والقمر معنا ، ما زلنا نسير القمر والنجم معنا ! مع أن القمر في السماء والنجم في السماء ، لكن هو معنا؛ لأنه ما غاب عنا . فالله ـ تعالى ـ وهو على عرشه ـ سبحانه ـ فوق جميع الخلق .
وتقتضي هذه الآية بالنسبة للأمر المسلكي المنهجي بأنك إذا آمنت بأن الله معك ، فإنك تتقيه وتراقبه ؛ لأنه لا يخفى عليه ـ عز وجل ـ حالك مهما كنت ، لو كنت في بيت مظلم ليس فيه أحد ولا حولك أحد فإن الله تعالى معك ، لكن ليس في نفس المكان ، وإنما محيط بك ـ عز وجل ـ لا يخفى عليه شيء من أمرك . فتراقب الله ، وتخاف الله ، وتقوم بطاعته ، وتترك مَنَاهِيه . والله الموفق .
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ... ﴾ الآية الثالثة التي ساقها المؤلف رحمه الله تعالى ـ في باب المراقبة قوله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران:5] ،
﴿شَيْءٌ﴾ نكرة في سياق النفي في قوله : ﴿لا يَخْفَى﴾ فتعم كل شيء ، فكل شيء لا يخفى على الله في الأرض ولا في السماء ، وقد فصل الله هذا في قوله تبارك وتعالى : ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59] . قال العلماء : إذا كانت الأوراق الساقطة يعلمها ؛ فكيف بالأوراق النامية التي ينبتها ويخلقها ؛ فهو بها أعلم عز وجل . أما قوله : ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ﴾ . ﴿حَبَّةٍ﴾ : نكرة في سياق النفي المؤكد بمن . إذًا يشمل كل ورقة صغيرة كانت أو كبيرة . ولْنفرض أن حبة صغيرة منغمسة في طين البحر ، فهي في خمس ظلمات: الظلمة الأولى: ظلمة الطين المنغمسة فيه. الثانية: ظلمة الماء في البحر. الثالثة: ظلمة الليل. الرابعة: ظلمة السحاب المتراكم. الخامسة: ظلمة المطر النازل. خمس ظلمات فوق هذه الحبة الصغيرة؛ والله عز وجل يعلمها. وقوله: ﴿وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ . مكتوب ، مبيَّن، بيِّن ، ظاهر ، معلوم عند رب العالمين عز وجل.
إذًا من كان هذا سعة علمه فعلى المؤمن أن يراقب الله سبحانه وتعالى، وأن يخشاه في السر كما يخشاه في العلانية، بل الموفَّق الذي يجعل خشية الله في السر أعظم وأقوى من خشيته في العلانية ؛ لأن خشية الله في السر أقوى في الإخلاص، لأنه ليس عندك أحد؛ لأن خشية الله في العلانية ربما يقع في قلبك الرياء ومراءاة الناس.
فاحرص- يا أخي المسلم- على مراقبة الله- عز وجل - وأن تقوم بطاعته امتثالًا لأمره واجتنابًا لنهيه، ونسأل الله العون على ذلك؛ لأن الله إذا لم يُعِنَّا، فإننا مخذولون؛ كما قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5] .
فإذا وُفِّق العبد للهداية والاستعانة في إطار الشريعة فهذا هو الذي أنعم الله عليه. ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6،5]، لابد أن تكون العبادة في نفس هذا الصراط المستقيم، وإلا كانت ضررًا على العبد . فهذه ثلاثة أمور ، هي منهج الذين أنعم الله عليهم، ولهذا قال ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:6،7] .
الآية الرابعة التي ذكرها المؤلف- رحمه الله تعالى- في باب المراقبة: قوله تعالى:﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر:14] ،
وهذه الآية ختمَ الله بها ما ذكره من عقوبة عاد ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12)فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾[الفجر:7 ـ 14]، فبيَّن، عز وجل- أنه بالمرصاد لكل طاغية ، وأن كل طاغية فإن الله تعالى يقصم ظهره ويبيده ولا يبقي له باقية. فعاد إرم ذات العماد، ذات البيوت العظيمة المبنية على العمد القوية، أعطاهم الله قوة شديدة فاستكبروا في الأرض وقالوا: من أشد منا قوة؟ ! فقال الله عز وجل : ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة﴾ [فصلت:15]؛
فبين الله - عز وجل- أنه هو أشد منهم قوة، واستدل لذلك بدليل عقلي، وهو أن الله هو الذي خلقهم، ولهذا قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ﴾ ، ولم يقل: ((أو لم يروا أن الله هو أشد منهم قوة)) قال ﴿الَّذِي خَلَقَهُمْ﴾ ؛ لأنه من المعلوم بالعقل علمًا ضروريًا أن الخالق أقوى من المخلوق ، فالذي خلقهم هو أشد منهم قوة : ﴿وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ﴾، [فصلت:15] ، فأصابهم الله - سبحانه وتعالى - بالقحط الشديد، وأمسكت السماء ماءها فجعلوا يستسقون، أي: ينتظرون أن الله يُغيثهم، فأرسل الله عليهم الريح العقيم في صباح يوم من الأيام ، أقبلت ريح عظيمة تحمل من الرمال والأتربة ما صار كأنه سحاب مركوم. ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الاحقاف:24]،
حكمة من الله عز وجل، لم تأتهم الريح هكذا، وإنما جاءتهم وهم يُؤَمِّلون أنها غيث ليكون وقعها أشد، شيء أقبل فظنوه ريحًا تسقيهم فإذا هو ريح تدمِّرهم، فكون العذاب يأتي في حال يـتأمل فيها الإنسان كشف الضرر يكون أعظم وأعظم. مثل ما لو منَّيتَ شخصًا بدراهم ثم سحبتها منه صار أشد وأعظم،
﴿لَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الاحقاف:24] ، لأنهم كانون يتحدَّون نبيهم: يقولون: إن كان عندك عذاب فأتِ به إن كنت صادقًا، فجاءتهم ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ والعياذ بالله !! هاجت عليهم سبع ليال وثمانية أيام؛ لأنها بدأت من الصباح وانتهت بالغروب، فصارت سبع ليال وثمانية أيام حسومًا متتابعة قاطعة لدابرهم تحسمهم حسمًا، حتى إنها تحمل الواحد منهم إلى عنان السماء، ثم ترمي به، فصاروا كأنهم أعجاز نخل خاوية، أي: مثل أصول النخل الخاوية ملتوين على ظهورهم- والعياذ بالله - كهيئة السجود؛ لأنهم يريدون أن يتخلَّصوا من هذه الريح بعد أن تحملهم وتضرب بهم الأرض، ولكن لم ينفعهم هذا. قال الله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾ [فصلت:16]، والعياذ بالله .
أما ﴿ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ [الفجر:9] ، فهم أيضًا عندهم عتوٌّ وطغيان وتحدٍّ لنبيهم ، حتى قالوا له:﴿كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾ [هود:62] ، أي كنا نرجوك ونظنك عاقلًا، أما الآن فأنت سفيه؛ لأنه ما من رسول أرسل إلا قال له قومه: ساحر أو مجنون ، كما قال الله: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذريات:52] . فأنظرهم ثلاثة أيام: ﴿فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود:65]، فلما تمَّت الثلاثة- والعياذ بالله- ارتجفت بهم الأرض، وصيح بهم، فأصبحوا كهشيم المحتظر، أي: مثل سعف النخل إذا طالت عليه المدة صار كأنه هشيم محترق من الشمس والهواء، صاروا كهشيم المحتظر وماتوا عن آخرهم.
أما فرعون - وما أدراك ما فرعون- فهو ذلك الرجل الجبار المتكبر، الذي طغى وأنكر الله- عز وجل - وقال لموسى : ما رب العالمين؟ وقال لقومه: ما لكم من إله غيري !! نعوذ بالله، وقال لهامان وزيره ﴿ابْنِ لِي صَرْحًا﴾يعني: بناءً عاليًا ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ يقوله تهكمًا -والعياذ بالله- ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ [غافر: 36،37] . وكذب في قوله: وإني لأظنه كاذبًا؛ لأنه يعلم أنه صادق، كما قال الله تعالى في مناظرته مع موسى، قال له موسى: ﴿لَقَدْ عَلِمْت﴾ يا فرعون ﴿مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾[الإسراء:102]، ما أنكر ، ماقال : ماعلمت !بل سكت ، والسكوت في مقام التحدي والمناظرة يدل على الانقطاع وعدم الجواب. وقال الله تعالى عنه وعن قومه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[النمل:14] . فهم- والعياذ بالله- فرعون وجنوده- يعلمون أن موسى صادق، لكنهم مستكبرون جاحدون. ماذا حصل لهم؟ حصل لهم- والعياذ بالله- هزائم، أعظمها الهزيمة التي حصلت للسحرة جمعَ جميع السحرة في بلاده باتفاق مع موسى- عليه الصلاة والسلام- وموسى هو الذي عيَّن الموعد أمام فرعون، مع أن موسى أمام فرعون يعتبر ضعيفًا لولا أن الله نصره وأيده. قال لهم موسى:﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً﴾ [طـه:59]، يوم الزينة يوم العيد؛ لأن الناس يتزينون فيه ويلبسون الزينة. وقوله: ﴿وَأَنْ يُحْشَرَ﴾ يجمع ﴿النَّاسُ ضُحىً﴾ لا في الليل في الخفاء.فجمع فرعون جميع من عنده من عظماء السحرة وكبرائهم،واجتمعوا بموسى- عليه الصلاة والسلام- وألقوا حبالهم وعصيهم. الحبال معروفة، والعصا معروفة، ألقوها في الأرض فصارت الأرض كلها ثعابين- حيَّات - تمشي، أرهبت الناس كلهم، حتى موسى أوجف في نفسه خيفةً فأيده الله وقال له: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾[طـه: 68،69] . فألقى ما في يمينه وهي العصا، عصا واحدة فقط؛ فإذا هي تلقف ما يأفكون ، كل الحبال والعصي أكلتها هذه العصا، سبحان الله العظيم !وأنت تعجب: أين ذهبت العصا؟ ليست كبيرة حتى تأكل كل هذا، لكن الله عز وجل على كل شيء قدير، فالتهمت الحبال والعصي، وكان السحرة أعلم الناس بالسحر بلا شك، فعرفوا أن الذي حصل لموسى وعصاه ليس بسحر، وأنه آية من آيات الله عز وجل، فأُلقي السحرة ساجدين. وانظر إلى كلمة ﴿أُلقِيَ﴾ كأن هذا السجود جاء اندفاعًا بلا شعور، ما قال: سجدوا ! ألقوا ساجدين، كأنهم من شدة ما رأوا اندفعوا بدون شعور ولا اختيار؛ حتى سجدوا مؤمنين بالله ورسوله. ﴿قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ فتوعدهم فرعون واتهمهم وهو الذي جاء بهم، فقال: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ [طـه:71] ، سبحان الله ! علمهم السحر وأنت الذي أتيت بهم؟! سبحان الله! لكن المكابرة تجعل المرء يتكلم بلا عقل. قال: ﴿فلأَقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.﴿ وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طـه:71] ، ما الذي قالوا له؟ ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَات﴾ ما يمكن أن نقدمك على ما رأينا من البينات! أنت كذاب لست برب ، الرب رب موسى وهارون. ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾[طـه:72]، انظر إلى الإيمان إذا دخل القلوب! رخصت عليهم الدنيا كلها ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ أي: افعل ما تريد ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ إذا قضيت علينا أن نفارق الدنيا ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾؛ لأنه قد أكرههم لكي يأتوا ويقابلوا موسى ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[طـه:73] ، فالإيمان إذا دخل القلب، واليقين إذا دخل القلب لا يفتته شيء، وإلا فإن السحرة جنود فرعون، كانوا في أول النهار سحرة كفرة، وفي آخر النهار مؤمنين برَرَة، يتحدَّون فرعون لما دخل في قلبهم من الإيمان، فهذه هزيمة نكراء لفرعون، لكن مع ذلك ما زال في طغيانه. وفي النهاية جمع الناس على أنه سيقضي على موسى فخرج موسى في قومه هربًا منه متَّجهًا بأمر الله إلى البحر الأحمر ويسمى (( بحر القُلْزُم)) متجهًا إليه مشرقًا، فتكون مصر خلفه غربًا، فلما وصل إلى البحر وإذا فرعون بجنوده العظيمة وجحافلهِ القوية خلفهم والبحر أمامهم، ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ البحر أمامنا وفرعون وجنوده خلفنا، أين نفرّ؟ ﴿قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:62] ، اللهم صلِّ وسلم عليه، هكذا يقين الرسل- عليهم الصلاة والسلام- في المقامات الحرجة الصعبة، تجد عندهم من اليقين ما يجعل الأمر العسير- بل الذي يظن أنه متعذِّر- أمرًا يسيرًا سهلًا ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ فلما فوَّض الأمر إلى الله - سبحانه وتعالى- أوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر الأحمر. فضرب البحر بعصاة ضربةً واحدة فانفلقَ البحر اثني عشر طريقًا؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة قبيلة، اثني عشر سِبْطًا، والسبطُ بمعنى القبيلة عند العرب . فضربه، وبلحظة يبس ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى﴾[طـه:77]، فعبر موسى بقومه في أمن وأمان؛ الماء بين هذه الطرق مثل الجبال كأنه جبل واقف، الماء جوهر سيَّال، لكنه بأمر الله صار واقفًا كالجبال. حتى إن بعض العلماء قال: إن الله- سبحانه وتعالى - جعل في كل طودٍ من هذه المياه، جعل فيها فرجًا حتى ينظر بنو إسرائيل بعضهم إلى بعض؛ لئلا يظنوا أن أصحابهم قد غرقوا وهلكوا، من أجل أن يطمئنوا. فلما انتهى موسى وقومه خارجين دخل فرعون وقومه، فلما تكاملوا أمر الله البحر أن يعود على حاله فانطبق عليهم، وكان بنو إسرائيل من شدة خوفهم من فرعون وقع في نفوسهم أن فرعون لم يغرق، فأظهر الله جسد فرعون على سطح الماء، قال:﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾[يونس:92]، حتى يشاهدوه بأعينهم، واطمأنوا أن الرجل قد هلك.
فتأمل هؤلاء الأمم الثلاث الذين هم في غاية الطغيان، كيف أخذهم الله- عز وجل- وكان لهم بالمرصاد، وكيف أهلكوا بمثل ما يفتخرون به. فقوم عاد قالوا: من أشد منا قوة؛ فأُهلكوا بالريح، وهي أصلًا لطيفة وسهلة. وقوم صالح أهلكوا بالرجفة والصيحة. وفرعون أهلك بالماء والغرق، وكان يفتخر بالماء، يقول لقومه: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ يعني موسى ﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾[الزخرف:51ـ53]،فأغرقه الله تعالى بالماء. فهذه جملة ما تشير إليه هذه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر:14] .
الآية الخامسة: قوله عز وجل: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19]، يعلم يعني الله عز وجل ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ﴾ وخائنة الأعين خيانتها. فالخائنة هنا مصدر كالعاقبة والعافية وما أشبهها. ويجوز أن تكون اسم فاعل على أنها من خان يخون؛ فيكون من باب إضافة الصفة إلى موصوفها. على كل حال هذه مسألة نحوية ما تهم هنا، المهم أن للأعين خيانة، وذلك أن الإنسان ينظر إلى الشيء ولا تظن أنه ينظر إليه نظرًا محرمًا، ولكن الله عز وجل يعلم أنه ينظر نظرًا محرمًا. كذلك ينظر إلى الشخص نظرَ كراهية، والشخص المنظور لا يدري أن هذا نظر كراهية، ولكن الله تعالى يعلم أنه ينظر نظر كراهية، كذلك ينظر الشخص إلى شيء محرم ولا يدري الإنسان الذي يرى هذا الناظر أنه ينظر إلى الشيء نظر إنكار أو رضا، ولكن الله سبحانه هو يعلم ذلك- فهو- سبحانه وتعالى- يعلم خائنة الأعين. ويعلم أيضًا ما تخفي الصدور أي: القلوب؛ لأن القلوب في الصدور، والقلوب هي التي يكون بها العقل، ويكون بها الفهم، ويكون بها التدبير، كما قال الله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾[الحج:46]، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[الحج: 4]. سبحان الله! كأن هذه الآية تنزل على حال الناس اليوم، بل حال الناس في القديم. يعني: هل العقل في الدماغ أو العقل في القلب؟ هذه مسألة أشكلت على كثير من النظار الذين ينظرون إلى الأمور نظرة مادية لا يرجعون فيها إلى قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم . وإلا فالحقيقة أن الأمر فيها واضح أن العقل في القلب، وأن القلب في الصدر ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ ، وقال﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[الحج:46]، ولم يقل القلوب التي في الأدمغة. قال ﴿الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ، فالأمر فيه واضح جدًّا أن العقل يكون في القلب، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب)) أخرجه البخاري ، ومسلم. فما بالك بأمر شهد به كتاب الله، والله تعالى هو الخالق العالم بكل شيء، وشهدت به سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ! إن الواجب علينا إزاء ذلك أن نطرح كل قول يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نجعله تحت أقدامنا ، وأن لا نرفع به رأسًا. إذًا القلب هو محل العقل ولاشك، ولكن الدماغ محل التصوُّر ، ثم إذا تصورها وجهَّزها بعث بها إلى القلب ، ثم القلب يأمر أو ينهى فكأن الدماغ (سكرتير) يجهز الأشياء ثم يدفعها إلى القلب، ثم القلب يوجه، يأمر أو ينهى ، وهذا ليس بغريب ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21] ، وفي هذا الجسم أشياء غريبة تحار فيها العقول، فليس بغريب أن الله- سبحانه وتعالى- يجعل التصور في الرأس ، فيتصور الدماغ وينظم الأشياء ، حتى إذا لم يبق إلا الأوامر أرسلها إلى القلب، ثم القلب يحرك، يأمر أو ينهي؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- قال: ( إذا صلحت صلح الجسد)) فلولا أن الأمر للقلب ما كان إذا صلح صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد كله. إذًا فالقلوب هي محل العقل والتدبير للشخص، ولكن لا شك أن لها اتصالا بالدماغ، ولهذا إذا اختل الدماغ فسد التفكير وفسد العقل! فهذا مرتبط بهذا، لكن العقل المدبر في القلب، والقلب في الصدر ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46] .
* * *
60- وأما الأحاديث: فالأول : عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: (( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. قال : صدقت .فعجبنا يسأله ويُصَدِّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان . قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت : قال فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطق , فلبتث مليًّا، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) أخرجه مسلم.
ومعنى (( تلد الأمة ربتها)) أي: سيدتها ومعناه: أن تكثر السراري حتى تلد الأمة السرية بنتًا لسيدها، وبنت السيد في معنى السيد، وقيل غير ذلك. ((والعالة)) الفقراء وقوله: ((مليًّا)) أي: زمان طويلاً، وكان ذلك ثلاثًا.
الشرح: ذكر المؤلف - رحمه الله- حديث عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - هذا الحديث العظيم، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في آخره: ((أتدري من السائل)) قال: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) إذًا ديننا في هذا الحديث؛ لأنه مشتمل على كل الدين، على الإسلام، والإيمان، والإحسان. قوله: ((بينما)) هذه ظرف تدل عل المفاجأة ، ولهذا تأتي بعدها ((إذ)) المفيدة للمفأجاة، وكان الصحابة- رضي الله عنهم- يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا يغيب عن أصحابه أو أهله: ـ إما في البيت: في شؤون بيته- صلوات الله وسلامه عليه- يحلب الشاة ويُرَقِّع الثوب ويخصف النعل.
وإما مع أصحابه في المسجد، وإما ذاهبًا إلى عيادة مريض، أو زيارة قريب، أو غير ذلك من الأمور التي لا يمضي منها لحظة إلا وهو في طاعة الله عليه الصلاة والسلام، قد حفظ الوقت، وليس مثلنا نضيِّع الأوقات.
والغريب أن أغلى شيء عند الإنسان هو الوقت، وهو أرخص شيء عند الإنسان ، قال الله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾[المؤمنون:99، 100] ، حتى لا يضيع علي الوقت. ما يقول: لعلي أتمتع في المال، أو أتمتع بالزوجة، أو أتمتع في المركوب، أو أتمتع في القصور، بل يقول: لعلي أعمل صالحًا فيما تركت. مضى عليَّ الوقت وما استفدت منه،
فالوقت هو أغلى شيء ، لكن هو أرخص شيء عندنا الآن، نمضي أوقاتًا كثيرة بغير فائدة، بل نُمضي أوقاتنا كثيرة فيما يضر، ولست أتحدث عن رجل واحد، بل عن عموم المسلمين. اليوم- مع الأسف الشديد- أنهم في سهو ولهو وغفلة، ليسوا جادين في أمور دينهم، أكثرهم في غفلة وفي ترف، ينظرون ما يترف به أبدانهم وإن أتلفوا أديانهم. فالرسول - عليه الصلاة والسلام- كان دائمًا في المصالح الخاصة أو العامة ، عليه الصلاة والسلام. فبينما الصحابة عنده جلوس، إذا طلع عليهم رجل ((شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)) وهذا غريب! ليس مسافرًا حتى نقول إنه غريب عن البلد ، ولا يعرف فنقول إنه من أهل البلد . فتعجبوا منه، ثم هذا الرجل الذي جاء نظيفًا: شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، أي: شابٌّ لا يُرى عليه أثر السفر؛ لأن المسافر- لا سيما في ذلك الوقت- يكون أشعث أغبر؛ لأنهم يمشون على الإبل، أو على الأقدام ،والأرض غير مسفلتة، كلها غبار، لكن هذا لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فهو غريب ليس بغريب! حتى جاء وجلس إلى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهذا الرجل هو جبريل- عليه الصلاة والسلام- أحد الملائكة العظام، بل هو أفضل الملائكة فيما نعلم؛ لشرف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحي من الله إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو مَلَكٌ عظيم، رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته التي خُلق عليها مرتين: مرة في الأرض ، ومرة في السماء. - مرة في الأرض وهو في غار حراء، رآه وله ستمائة جناح، قد سد الأفق - كل الأفق - أمام الرسول - عليه الصلاة والسلام- لا يرى السماء من فوق؛ لأن هذا الملَكَ قد سد الأفق؛ لأنه له ستمائة جناح. سبحان الله! لأن الله يقول في الملائكة :﴿جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾[فاطر:1] ، لهم أجنحة يطيرون بها طيرانصا سريعًا. والمرة الثانية عند سدرة المنتهى. قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم:4ـ 9] . هذا في الأرض، دنا جبريل من فوق فتدلَّى، أي: قرب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى عبده- الرسول عليه الصلاة والسلام- ما أوحاه من وحي الله الذي حمَّله إياه. أما الثانية: فقال: ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾[النجم:13،14] ، فهذا جبريل . ولكن الله جعل للملائكة قدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو قد جاء في صورة هذا الرجل. قوله: ((حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه)) أي : أسند ركبتي جبريل إلى ركبتي النبي صلى الله عليه : ((ووضع كفيه على فخذيه)) قال العلماء: وضع كفَّيه على فَخِذَي نفسه، لا على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك من كمال الأدب في جلسة المتعلِّم أمام المعلِّم، بأن يجلس بأدب واستعداد لما يسمع ، واستماع لما يقال من الحديث . جلس هذه الجلسة ثم قال: ((يا محمد أخبرني عن الإسلام)) - ولم يقل: يا رسول الله أخبرني- كصنيع أهل البادية الأعراب ؛ لأن الأعراب إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: يا محمد. أما الذين سمعوا أدب الله عز وجل لهم فإنهم لا يقولون : يا محمد، وإنما يقولون: يا رسول الله؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾[النور:63] ، وهذا يشمل دعاءه عند النداء باسمه، ويشمل دعاءه إذا أمر أو نهى، فلا نجعل أمره كأمر الناس: إن شئنا امتثلنا وإن شئنا تركنا، ولا نجعل نهيه كنهي الناس: إن شئنا تركنا وإن شئنا فعلنا. كذلك عندما ندعوه، لا ندعوه كدعاء بعضنا بعضًا فنقول: يا فلان يا فلان، مثلما تنادي صاحبك، وإنما تقول: يا رسول الله، لكن الأعراب- لبعدهم عن العلم وجهل أكثرهم- إذا جاءوا ينادونه باسمه فيقولون : يا محمد .
| |
|