إبراهيم باشا Admin
عدد المساهمات : 703 تاريخ التسجيل : 23/02/2013 الموقع : http://www.ansarsonna.com
| موضوع: شرح أحاديث رياض الصالحين . * باب المجاهدة * ( جزء 3 ) . شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين . الأربعاء أبريل 05, 2017 12:18 am | |
|
شرح أحاديث رياض الصالحين . * باب المجاهدة * ( جزء 3 ) .
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين .
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا .
١٠٧ - الثالث عشر: عن أبي عبد الله - ويقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة ))
رواه مسلم .
١٠٨ - الرابع عشر: عن أبي صفوان عبد الله بن بسر الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( خير الناس من طال عمره وحسن عمله ))
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن . بسر: بضم الباء وبالسين المهملة .
الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( عليك بكثرة السجود عليك )) يعني إلزم كثرة السجود، (( فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ))
وهذا كالحديث السابق حديث ربيعة بن مالك الأسلمي، أنه قال للنبي: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: (( فأعني على نفسك بكثرة السجود )) .
ففيه: دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من السجود،
وقد سبق لنا أن كثرة السجود تستلزم كثرة الركوع وكثرة القيام والقعود، لأن كل ركعة فيها سجودان وفيها ركوع واحد، ولا يمكن أن تسجد في الركعة الواحدة ثلاث سجدات أو أربعًا، إذن كثرة السجود تستلزم كثرة الركوع والقيام، والقعود . ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يحصل للإنسان من الأجر فيما إذا سجد وهو أنه يحصل له فائدتان عظيمتان:
الفائدة الأولى: أن الله يرفعه بها درجة، يعني منزلة عنده وفي قلوب الناس، وكذلك في عملك الصالح يرفعك الله به درجة .
والثانية: يحط عنك بها خطيئة، والإنسان يحصل له الكمال بزوال ما يكره وحصول ما يحب، فرفع الدرجات مما يحبه الإنسان، والخطايا مما يكره الإنسان، فإذا رفع له درجة وحط عنه بها خطيئة، فقد حصل على مطلوبه ونجا من مرهوبه .
أما حديث عبد الله بن بسر، قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( خير الناس من طال عمره وحسن عمله )) وهذا خير الناس لأن الإنسان كلما طال عمره في طاعة الله زاد قربًا إلى الله، وزاد رفعة في الآخرة، لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره فهو يقربه إلى ربه عز وجل، فخير الناس من وفق لهذين الأمرين .
أما طول العمر فإنه من الله وليس للإنسان فيه تصرف، لأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأما حسن العمل فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله، لأن الله تعالى جعل له عقلاء وأنزل الكتب وأرسل الرسل وبين المحجة وأقام الحجة،
فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملًا صالحًا، على أن الإنسان إذا عمل عملًا صالحًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن بعض الأعمال الصالحة سبب لطول العمر وذلك مثل صلة الرحم . قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه وصلة ))
الرحم من أسباب طول العمر، فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسن عمله، فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائمًا أن يجعله ممن طال عمره وحسن عمله، من أجل أن يكون من خير الناس .
وفي هذا: دليل على أن مجرد طول العمر ليس خيرًا للإنسان إلا إذا حسن عمله، لأنه أحيانًا يكون طول العمر شرًا للإنسان وضررًا عليه، كما قال الله تبارك وتعالى: ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) ، فهؤلاء الكفار يملي الله لهم - أي يمدهم بالرزق والعافية وطول العمر والبنين والزوجات - لا لخير لهم، ولكنه شر لهم والعياذ بالله، لأنهم سوف يزدادون بذلك إثمًا .
ومن ثم كره بعض العلماء أن يدعى للإنسان بطول البقاء، قال لا تقل أطال الله بقاءك إلا مقيدًا، قل: أطال الله بقاءك على طاعته، لأن طول البقاء قد يكون شرًا للإنسان . نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن طال عمره، وحسن عمله، وحسنت خاتمته وعاقبته، إنه جواد كريم .
* * *
١٠٩ - الخامس عشر: عن أنس رضي الله عنه، قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه، عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدمم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد . قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع ! قال أنس: فوجدنا به بضعًاا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومَثَّل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه . قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: { منن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } إلى آخره . متفق عليه .
قوله: ليرين الله روى بضم الياء وكسر الراء، أي ليظهرن الله ذلك للناس، وروى بفتحهما، ومعناه ظاهر، والله أعلم .
الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن عمه أنس بن النضر رضي الله عنه، أن أنسًا لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم - يعني أنس بن النضر - في بدر، وذلك لأن غزوة بدر خرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يريد القتال، وإنما يريد عير قريش وليس معه إلا ثلاثمائة وبضع عشر رجلًا، معهم سبعون بعيرًا وفرسان يتعاقبون عليها، وقد تخلف عنها كثير من الصحابة لأنها ليست غزوة، ولم يدع إليها أحد وإنما خرج إليها الخفاف من الناس . قال أنس بن النضر للنبي عليه الصلاة والسلام يبين له أن لم يكن معه في أول قتال قاتل فيه المشركين، وقال: لئن أدركت قتالًا لأرين الله ما أصنع . فلما كانت أحد، وهي بعد غزوة بدر بسنة وشهر، خرج الناس وقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وصارت الدائرة في أول النهار للمسلمين، ولكن لما تخلف الرماة عن الموقع الذي جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه ونزلوا من الجبل، كر فرسان المشركين على المسلمين من خلفهم، واختلفوا بهم، وانكشف المسلمون، وصارت الهزيمة لما انكشف المسلمون، تقدم أنس بن النضر رضي الله عنه وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين . ثم تقدم رضي الله عنه فاستقبله سعد بن معاذ فسأله إلى أين ؟ قال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وهذا وجدان حقيقي ليس تخيلًا أو توهمًا ولكن من كرامة الله، هذا الرجل شم رائحة الجنة قبل أن يستشهد رضي الله عنه من أجل أن يقدم ولا يحجم فتقدم فقاتل فقتل رضي الله عنه .
استشهد ووجد فيه بضع وثمانون، ما بين ضربة بسيف أو برمح أو بسهم، حتى إنه قد تمزق جلده، فلم يعرفه أحد إلا أخته، ولم تعرفه إلا ببنانه رضي الله عنه . فكان المسلمون يرون أن الله قد أنزل فيه هذه الآية : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا ،
ولا شك أن هذا وأمثاله رضي الله عنهم يدخلون دخولًا أوليًّا في هذه الآية، فإنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حيث قال أنس: والله ليرين الله ما أصنع ففعل، فصنع صنعًا لا يصنعه أحد إلا مَنْ مَنَّ الله عليه بمثله حتى استشهد .
ففي هذا الحديث: دليل شاهد للباب، وهو مجاهدة الإنسان نفسه على طاعة الله، فإن أنس بن النضر جاهد نفسه هذا الجهاد العظيم، حتى تقدم يقاتل أعداء الله بعد أن انكشف المسلمون وصارت الهزيمة حتى قتل شهيدًا رضي الله عنه .
* * *
١١٠ - السادس عشر: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مراء وجاء رجل آخر فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا ، فنزلت : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم } متفق عليه .
ونحامل بضم النون، وبالحاء المهملة: أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة، ويتصدق بها .
الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - نقلًا عن أبي مسعود بن عمرو رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة: يعني الآية التي فيها الحث على الصدقة، والصدقة هي أن يتبرع الإنسان بماله للفقراء ابتغاء وجه الله . وسميت صدقة لأن بذل المال لله عز وجل دليل على صدق الإيمان بالله، فإن المال من الأمور المحبوبة للنفوس، قال الله تعالى: ( وتحبون المال حبًا جمًا جمًا ) أي كثيرًا وحيث إن المحبوب لا يبذل إلا لمن هو أحب منه، فإذا بذله الإنسان ابتغاء وجه الله كان ذلك دليلًا على صدق الإيمان .
فلما نزلت هذه الآية جعل الصحابة رضي الله عنهم يبادرون ويسارعون في بذل الصدقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي عادتهم أنهم إذا نزلت الآيات بالأوامر بادروها وامتثلوها، وإذا نزلت بالنواهي بادروا بتركها، ولهذا لما نزلت آية الخمر التي فيها تحريم الخمر، وبلغت قومًا من الأنصار، وكان الخمر بين أيديهم يشربون قبل أن يحرم فمن حين ما سمعوا الخبر أقلعوا عن الخمر، ثم خرجوا بالأواني يصبونها في الأسواق حتى جرت الأسواق في الخمر .
وهذا هو الواجب على كل مؤمن إذا بلغه عن الله ورسوله شيء أن يبادر بما يجب عليه، من امتثال هذا الأمر أو اجتناب هذا النهي .
وكذلك هنا فإن الصحابة رضي الله عنهم بدأوا يتحاملون الصدقة، كل واحد يحمل بقدرته من الصدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل بصدقة كثيرة وجاء رجل بصدقة قليلة، فكان المنافقون إذا جاء الرجل بالصدقة الكثيرة ، قالوا: هذا مراء والعياذ بالله، ما قصد به وجه الله . وإذا جاء الرجل بالصدقة القليلة قالوا: إن الله غني عنه، وجاء رجل بصاع فقالوا: إن الله غني عن صاعك هذا .
وهؤلاء هم المنافقون، والمنافقون هم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويظهرون الشماتة بالمؤمنين دائمًا، جعلوا أكبر همهم وأعذب مقال لهم، وألذ مقال على أسماعهم، أن يسمعوا ويقولوا ما فيه سب المسلمين والمؤمنين والعياذ بالله، لأنهم منافقون وهم العدو، كما قال الله عز وجل فهؤلاء صاروا إذا جاء رجل بكثير قالوا: هذا مراء، وإن جاء بقليل قالوا: إن الله غني عن صاعك ولا ينفعك، فأنزل الله عز وجل: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم }،
ويلمزون: يعني يعيبون، والمطوعين هم المتصدقين { والذين لا يجدون إلا جهدهم } والذين هذه معطوفة على قوله المطوعين، يعني ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم، فهم يلمزون هؤلاء وهؤلاء { فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم }، فهم سخروا بالمؤمنين فسخر الله منهم والعياذ بالله .
ففي هذا: دليل على حرص الصحابة على استباق الخير، ومجاهدتهم أنفسهم على ذلك .
وفي هذا: دليل أيضًا على أن الله عز وجل يدافع عن المؤمنين، وانظر كيف أنزل الله آية في كتاب الله مدافعة عن المؤمنين الذين كان هؤلاء المنافقون يلمزونهم .
وفيه: دليل على شدة العداوة من المنافقين للمؤمنين، وأن المؤمنين لا يسلمون منهم إن عملوا كثيرًا سبوهم، وإن عملوا قليلًا سبوهم، ولكن الأمر ليس إليهم، بل إلى الله عز وجل، ولهذا سخر الله منهم، وتوعدهم بالعذاب الأليم في قوله: { ولهم عذاب أليم } .
أما حكم المسألة هذه فإن الله تعالى قال في كتابه : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره } . القليل والكثير من الخير سيراه الإنسان، ويجازى به، والقليل والكثير من الشر سيراه الإنسان، ويجازى عليه،
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا تصدق بعدل تمرة - أي ما يعادلها - من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله تعالى يأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل .
وقارن بين حبة من التمر وبين الجبل، لا نسبة، الجبل أعظم بكثير، فالله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على ما عمل من خير قل أو كثر، ولكن احرص على أن تكون نيتك خالصة لله، لا تريد بذلك جزاءً ولا شكورًا من غير الله، واحرص على أن تكون متبعًا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* * *
١١١ - السابع عشر: عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني اغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
رواه مسلم .
وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحدث .
الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في باب المجاهدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام حدث عن الله أنه قال: ... إلى آخره، وهذا يسمى عند أهل العلم بالحديث القدسي أو الحديث الإلهي، أما ما كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يسمى بالحديث النبوي .
وهذا الحديث القدسي يقول الله تعالى فيه: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ) يقول جل وعلا إني حرمت الظلم على نفسي، أي ألا أظلم أحدًا لا بزيادة سيئات لم يعملها ولا بنقص حسنات عملها، بل هو سبحانه وتعالى حكم عدل محسن، فحكمه وثوابه لعباده دائرين بين أمرين، بين فضل وعدل، فضل لمن عمل الحسنات، وعدل لمن عمل السيئات، وليس هناك شيء ثالث وهو الظلم . أما الحسنات فإنه سبحانه وتعالى يجازي الحسنة بعشر أمثالها، من يعمل حسنة يثاب بعشر حسنات، أما السيئة فبسيئة واحدة فقط، قال الله تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية -: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ، لا يظلمون بنقص ثواب الحسنات، ولا يظلمون بزيادة جزاء السيئات، بل ربنا عز وجل يقول: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا }، ظلمًا بزيادة في سيئاته، ولا هضمًا بنقص من حسناته وفي قوله تعالى: إني حرمت الظلم على نفسي دليل على أنه جل وعلا يحرم على نفسه ويوجب على نفسه، فمما أوجب على نفسه الرحمة، قال الله تعالى: { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ومما حرم على نفسه الظلم، وذلك لأنه فعال لما يريد يحكم بما يشاء، فكما أنه يوجب على عباده ويحرم عليها، يوجب على نفسه ويحرم عليها جل وعلا، لأن له الحكم التام المطلق .
وقوله تعالى: (وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ) ، أي لا يظلم بعضكم بعضًا، والجعل هنا هو الجعل الشرعي، وذلك لأن الجعل الذي أضافه الله إلى نفسه إما أن يكون كونيًّا مثل قوله تعالى: { وجعلنا الليل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا }، وإما أن يكون شرعيًّا مثل قوله تعالى: { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام }، ما جعل: أي ما شرع، وإلا فقد جعل ذلك كونًا، لأن العرب كانوا يفعلون هذا، ومثل هذا الحديث جعلته بينكم محرمًا أي جعلته جعلًا شرعيًّا لا كونيًّا، لأن الظلم يقع .
وقوله (جعلته بينكم محرمًا) الظلم بالنسبة للعباد فيما بينهم يكون في ثلاثة أشياء بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وهو يخطب الناس في حجة الوداع ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) ، ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد . فهذه ثلاثة أشياء: الدماء والأموال والأعراض .
فالظلم فيما بين البشر حرام في الدماء، فلا يجوز لأحد أن يعتدي على دم أحد، لا على دم تفوت به النفس وهو القتل، ولا دم يحصل به النقص، كدم الجروح وكسر العظام وما أشبهها كل هذا حرام ولا يجوز .
واعلم أن كسر عظم الميت ككسره حيًّا، كما جاء ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالميت محترم لا يجوز أن يؤخذ من أعضائه شيء، ولا أن يكسر من أعضائه شيء، لأنه أمانة وسوف يبعث بكامله يوم القيامة، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تأخذ منه شيئًا . ولهذا نص فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - على أنه لا يجوز أن يؤخذ من الميت شيء من أعضائه، ولو أوصى به، وذلك لأن الميت محترم، كما أن الحي محترم، فإذا أخذنا من الميت عضوًا أو كسرنا منه عظمًا كان ذلك جناية عليه، وكان اعتداء عليه، وكنا آثمين بذلك . والميت نفسه لا يستطيع أن يتبرع من أعضائه، لأن أعضائه أمانة عنده، أمانة لا يحل له أن يفرط فيها، ولهذا قال الله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم }، وفسرها عمرو بن العاص رضي الله عنه بالإنسان إذا كان عليه جنابة وكان في البرد وخاف إذا اغتسل أن يتضرر، جعل عمرو بن العاص هذا داخلًا في الآية، وذلك حين كان عمرو بن العاص رضي الله عنه في سرية وأجنب وكانت الليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه، فلما رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وبلغه الخبر، قال لعمرو: أصليت بأصحابك وأنت جنب ؟ يعني لم تغتسل، قال: يا رسول الله إني ذكرت قول الله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا }، وخفت البرد فتيممت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على فعله وعلى استدلاله بالآية، لم يقل إن الآية لم تدل على هذا . فإذن كل شيء يضر أبداننا أو يفوت منها شيئًا فإنه لا يحل لنا أن نفعله، لقوله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم } فما حرم علينا أن نتناول الدخان وغيره من الأشياء الضارة، إلا من أجل حماية البدن، فالبدن محترم .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (دماؤكم) يشمل الدم الذي يهلك به الإنسان وهو القتل،
والدم بدون ذلك، وهو الجرح أو كسر العظم أو ما أشبه ذلك .
أما قوله تعالى: (وأموالكم) فإن الأموال قد حرم الله سبحانه وتعالى على بعضنا أن يأخذ من مال أخيه بغير حق بأي نوع من الأنواع، سواء أخذه غصبًا بأن يأخذه بالقوة، أو أخذه سرقة، أو اختطافًا، أو خيانة، أو غشًا، أو كذبًا، بأي نوع من هذه الأنواع فإنه حرام عليه .
وعلى هذا فالذين يبيعون على الناس بالغش فإن كل مال يدخل عليهم من زيادة في الثمن بسبب الغش فإنه حرام، فالذين يغشون في البيع أو في الشراء يرتكبون محظورين:
المحظور الأول: العدوان على إخوانكم المسلمين بأخذ أموالهم بغير حق . المحظور الثاني:أنهم ينالون تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وبئس البضاعة بضاعة يلتحق فيها صاحبها بالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (( من غش فليس منا )) . ومن ذلك ما يفعله بعض الجيران حيث تجده يدخل المراسيم على جاره من أجل أن تزيد أرضه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من اقتطع من الأرض شبرًا بغير حق، فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين، يكون يوم القيامة في عنقه طوق من سبع أرضين، والعياذ بالله، يحمله في يوم المحشر، وهذا من الظلم .
ومن الظلم أيضًا أن يكون لشخص على شخص دراهم ثم ينكر الذي عليه الحق، ويقول: ليس لك عندي شيء، فهذا من أكل المال بالباطل، حتى لو فرض أنه تحاكم إلى القاضي مع خصمه وغلبه عند القاضي، فإنه لا يغلبه عند الله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن أن بحجته من بعض فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقتطع له جمرة من نار فليستقل أو ليستكثر )) ، فلا تظن إنك إن غلبت خصمك عند القاضي وكنت مبطلًا تسلم بهذا في الآخرة .
أبدًا، لأن القاضي إنما يقضي بنحو ما يسمع ولا يعلم الغيب، ولكن علام الغيوب جل وعلا هو الذي يحاسبك يوم القيامة .
وكذلك أيضًا من أكل الأموال أن يدعي شخص على آخر ما ليس له، ويقيم على ذلك البينة بالشهادة الزور ويحكم له بذلك، فإن هذا من أكل المال بالباطل،
والأمثلة على ذلك كثيرة ولكنها كلها محرمة إن لم تكن بحق، ولهذا قال عز وجل: (فلا تظالموا) . أما الأعراض فهي أيضًا حرام، فلا يحل للإنسان أن يقع في عرض أخيه، فيغتابه في المجالس أو يسبه، فإن ذلك من كبائر الذنوب . قال الله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا } انظر الترتيب ، (اجتنبوا كثيرًا من الظن) ، فإذا ظن الإنسان بأخيه شيئًا تجسس عليه، ولهذا قال: ولا تجسسوا، فإذا تجسس صار يغتابه، ولهذا قال في الثالثة، قال تعالى: { ولا يغتب بعضكم بعضًا }، ثم قال تعالى: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه } الجواب: لا، لا يحب بل يكره، ولهذا قال: { فكرهتموه } قال بعض المفسرين: إذا كان يوم القيامة فإنه يؤتى بالرجل الذي اغتابه الشخص يمثل له بصورة إنسان ميت، ثم يقال له: كل من لحمه، ويكره على ذلك، وهو يكرهه، لكن يكره على هذا عقوبة له والعياذ بالله . فالغيبة - وهي انتهاك: عرض أخيك - محرمة،
وقد روى أبو داود أن النبي، مر ليلة عرج به بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، يعني يكرون الوجوه والصدور بهذه الأظفار التي من النحاس، فقال: يا جبريل، من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم . نعوذ بالله .
ثم إن الإنسان إذا انتهك عرض أخيه فإن أخاه يأخذ في الآخرة من حسناته، ولهذا يذكر أن بعض السلف قيل له إن فلانًا يغتابك، فقال: مؤكد، قال: نعم اغتابك، فصنع هدية له ثم بعث بها إليه، فاستغرب الرجل كيف يغتابه ويرسل له هدية، قال: نعم، إنك أهديت إلي حسنات والحسنات تبقى ، وأنا أهديت إليك هدية تذهب في الدنيا، فهذه مكافأة على هديتك لي !
انظر فقه السلف رضي الله عنهم .
فالحاصل أن الغيبة حرام ومن كبائر الذنوب، ولاسيما إذا كانت الغيبة في ولاة الأمور من الأمراء أو العلماء، فإن غيبة هؤلاء أشد من غيبة سائر الناس، لأن غيبة العلماء تقلل من شأن العلم الذي في صدورهم، والذي يعلمونه الناس، فلا يقبل الناس ما يعطونه من العلم وهذا ضرر على الدين،
وغيبة الأمراء تقلل من هيبة الناس لهم فيتمردون عليهم، وإذا تمرد الناس على الأمراء فلا تسأل عن الفوضي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فنسأل الله أن يحمينا وإياكم مما يغضبه إنه جواد كريم .
ثم قال الله تعالى: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) ضال يعني تائهًا ، أي لا يعرف الحق، وضال يعني غاويًا لا يقبل الحق، فالناس في الضلال قسمان:
قسم تائه: لا يعرف الحق مثل النصارى فإن النصارى ضالون تائهون لا يعرفون الحق إلا بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم عرفوا الحق لكنهم استكبروا عنه، فلم يكن بينهم وبين اليهود فرق في أنهم علموا الحق ولم يتبعوه . وقسم غاوي: أي اختار الغي عن الرشد بعد أن علم بالرشد، وهؤلاء مثل اليهود، فإن اليهود عرفوا الحق ولكنهم لم يقبلوه، بل ردوه . ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }، هداهم الله وبين لهم ودلهم لكنهم استحبوا العمى على الهدى ، واستحبوا الغي على الرشد، فالناس كلهم ضالون إلا من هداه الله .
لكن ما هي هداية القسم الأول وهو الضال الذي لم يعرف الحق ؟
هداية القسم الأول أن يبين الله لهم الحق ويدلهم عليه، وهذه الهداية حق على الله، حق على الله أوجبه الله على نفسه ، فكل الخلق قد هداهم الله بهذا المعنى ، يعني بمعنى البيان .
قال الله تعالى: { إن علينا للهدى }، وقال تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } هدى للناس عمومًا .
ولكن الهداية الثانية وهي هداية التوفيق لقبول الحق هذه هي التي يختص الله بها من يشاء من عباده،
فالهداية هدايتان، هداية بيان الحق، وهذه عامة لكل أحد، وقد أوجبها الله على نفسه، وبين لعباده الحق من الباطل، وهداية توفيق لقبول الحق والعمل به، تصديقًا للخبر وقيامًا بالطلب، وهذه خاصة يختص الله بها من يشاء من عباده .
والناس في هذا الباب ينقسمون إلى أقسام:
القسم الأول: من هدى الهدايتين، أي علمه الله ووفقه للحق وقبوله .
والقسم الثاني: من هدى بالدلالة والإرشاد ولكنه لم يهد هداية التوفيق، وهذا شر الأقسام والعياذ بالله .
والمهم أن الله عز وجل يقول: (كلكم ضال) ، أي كلكم لا يعرف الحق، أو كلكم لا يقبل الحق، إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يعني اطلبوا الهداية مني، فإذا طلبتموها فإنني أجيبكم وأهديكم إلى الحق . ولهذا جاء الجواب في (استهدوني أهدكم) وكأنه جواب شرط، يتحقق المشروط عند وجود الشرط، ودليل هذا أن الفعل جزم استهدوني أهدكم فمتى طلبت الهداية من الله بصدق وافتقار إليه وإلحاح، فإن الله يهديك .
ولكن أكثرنا معرض عن هذا، فأكثرنا قائم بالعبادة لكن على العادة وعلى ما يفعل الناس، ما كأننا مفتقرون إلى الله سبحانه وتعالى في طلب الهداية، فالذي يليق بنا أن نسأل الله دائمًا الهداية،
والإنسان في كل صلاة يقول رب اغفر لي وارحمني واهدني، بل إنه في الصلاة يقول على سبيل الركنية: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } ولكن أين القلوب الواعية ؟
إن أكثر المصلين يقرأ هذه الآية وتمر عليه مر الطيف، أي مر الغيم الذي يجري بدون ماء وبدون شيء، ما ينتبه لها .
والذي يليق بنا أن ننتبه وأن نعلم أننا مفتقرون إلى الله عز وجل في الهداية، سواء الهداية العلمية أو الهداية العملية أي هداية الإرشاد والدلالة أو هداية التوفيق، فلابد أن نسأل الله دائمًا الهداية .
(فاستهدوني أهدكم) وربما تشمل هذه الهداية الطريق الحسي كما تشمل الطريق المعنوي، فالهداية للطريق المعنوي هي الهداية إلى دين الله، والهداية للطريق الحسي، كأن تكون في أرضه قد ضللت الطريق وضعت، فإنك تسأل الله الهداية،
ولهذا قال الله عن موسى صلى الله عليه وسلم: { ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل }، أي السبيل المستوي الموصل للمقصود بدون تعب، وقد جرب هذا، فإن الإنسان إذا ضاع في البر فإنه يلجأ إلى الله تعالى ويقول: رب اهدني سواء السبيل، أو عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، وذلك لأننا محتاجون إلى الله في الهدايتين، هداية الطريق الحسي، كما أننا محتاجون إلى الله في الهداية إلى الطريق المعنوي .
ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم )) هاتان الجملتان الخاصتان بالجوع والعرى ذكرهما الله عز وجل بعد أن ذكر الهداية فيها غذاء القلب في العلم والإيمان، والجوارح بالعمل الصالح .
وأما الطعام والشراب والكسوة فهي غذاء البدن، لأن البدن لا يستقيم إلا بالطعام ولا يستتر إلا بالكسوة، ولهذا قال: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم) . وصدق ربنا عز وجل، كلنا جائع إلا من أطعمه الله، ولولا أن الله تعالى يسر لنا ما يكون به طعامنا لهلكنا، يقول الله تعالى مبينًا ذلك في سورة الواقعة { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } .
والجواب: بل أنت يا ربنا الذي زرعته، لأن الله يقول: { لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون }، وتأمل كيف قال تعالى: { لو نشاء لجعلناه حطامًا } ولم يقل لو نشاء ما أنبتناه، لأنه إذا ثبت وشاهده الناس تعلقت قلوبهم به، فإذا جعل حطامًا بعد أن تعلقت به القلوب صار ذلك أشد نكاية، ولهذا قال تعالى: { لو نشاء لجعلناه حطامًا }، لم يقل لو نشاء ما أنبتناه . { أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن }، يعني من السحاب { أم نحن المترلون } لأن الماء الذي نشرب من السحاب، ينزله الله عز وجل على الأرض كالأنهار، ثم يستخرج بالأدوات التي سخرها الله عز وجل للناس في كل وقت بحسبه، وهذا من حكمة الله عز وجل أن استودع الماء في بطن الأرض، ولو بقي على ظهر الأرض لفسد، وأفسد الهواء وأهلك المواشي، بل وأهلك الأدميين من رائحته ونتنه، ولكن الله عز وجل بحكمته ورحمته جعل هذه الأرض تشربه، وتسلكه ينابيع فيها، حتى تأتي حاجة الناس إليه فيحفرونه فيصلون إليه .
{ أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون } والله هو الذي أنزله عز وجل، ولو اجتمع الناس كلهم على أن ينزلوا قطرة من السماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولكن الله عز وجل هو الذي ينزله بقدرته ورحمته، إذن نحن لا نطعم شيئًا من طعام أو مأكول ولا من مشروب إلا بالله عز وجل، ولهذا قال: كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم . واستطعام الله عز وجل يكون بالقول وبالفعل، فبالقول بأن نسأل الله عز وجل أن يطعمنا وأن يرزقنا، وأما بالفعل فله جهتان:
الجهة الأولى: العمل الصالح، فإن العمل الصالح سبب كثرة الأرزاق وسعتها، قال الله عز وجل: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون }، وقال تعالى: { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهمسيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } . { من فوقهم } أي: من ثمار الأشجار، { ومن تحت أرجلهم } أي: من الزروع،
فالمهم أن هذا من أسباب إطعام الله .
الجهة الثانية: من جهتي الاستطعام بالفعل أن نحرث الأرض، ونحفر الآبار ونستخرج المياه، ونزرع الحبوب، ونغرس الأشجار، وما أشبه ذلك .
فالاستطعام إذن يكون بالقول ويكون بالفعل، والفعل له جهتان:
الجهة الأولى: العمل الصالح،
والجهة الثانية: الأسباب الحسية المادية كالحرث وحفر الآبار وما أشبه ذلك .
وقوله جل ذكره: (فاستطعموني أطعمكم) هذا جواب شرط مقدر أو جواب الأمر الذي كان في الشرط، يعني إنك إذا استطعمت الله فإن الله يطعمك، ولكن استطعام الله عز وجل يحتاج إلى أمر مهم وهو حسن الظن بالله جل وعلا، أي أن تحسن الظن بربك أنك إذا استطعمته أطعمك، أما أن تدعو الله وأنت غافل لاهٍ، أو تفعل الأسباب وأنت معتمد على قوتك لا على ربك فإنك قد تكون مخذولًا والعياذ بالله، ولكن استطعم الله وأخلص له وحده في ذلك .
(يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) : كلكم عار إلا من كسوته، وذلك لأن الإنسان يخرج من بطن أمه ليس عليه ثياب بل يخرج مجردًا لا ثياب، ولا شعر يكسوه، كما يكون في الحيوان، وهذا من حكمة الله عز وجل . فمن حكمته تعالى أن جعلنا نخرج بادية أبشارنا، بادية جلودنا، حتى نعرف أننا محتاجون إلى كسوة تستر عوراتنا حسًا، كما أننا محتاجون إلى عمل صالح يستر عوراتنا معنى، لأن التقوى لباس كما قال تعالى: { ولباس التقوى ذلك خير } . فأنت انظر في نفسك تجد أنك محتاج إلى الكسوة الحسية لأنك عار، كذلك أيضًا محتاج إلى الكسوة المعنوية - وهي العمل الصالح - حتى لا تكون عاريًا،
ولهذا ذكر بعض العابرين للرؤيا أن الإنسان إذا رأى في المنام عاريًا فإنه يحتاج إلى كثرة الاستغفار، لأن هذا دليل على نقصان تقواه، فإن التقوى لباس .
وعلى كل حال فنحن عراة إلا بكسوة الله عز وجل، وقد سخر الله لنا من الكسوة ما نكسو به أبداننا .
ولله الحمد، من أصناف اللباس المتنوعة، لاسيما في البلاد الغنية التي ابتلاها الله عز وجل بالمال، فإن المال في الحقيقة فتنة يخشى على الأمة منه، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: (( والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم )) فالمال ابتلاء يحتاج إلى صبر على أداء ما يجب فيه، وإلى شكر على ما يجب له وعلى كل حال أقول إن الله سبحانه وتعالى من علينا باللباس ولولا أن الله يسره لنا ما تيسر،
ولو أنك نظرت في الخلق في وقتك الآن وتأملت لوجدت كما سمعنا من يبيتون عراة، ليس على أبدانهم ما يسترهم، ربما يسترون السوءة بالأشجار ونحوها، وليس عليهم ما يسترهم دون ذلك،
فمن الذي سترك ومن عليك ؟ هو الله،
ولهذا قال عز وجل: (يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) .
ونقول في قوله: (فاستكسوني أكسكم) كما قلنا في قوله استطعموني أطعمكم يعني أن الاستكساء يكون بالقول ويكون بالفعل أما الذي بالقول فبأن تسأل الله عز وجل أن يكسوك، وإذا سألت الله أن يكسو بدنك حسًّا، فاسأل الله أن يكسو عورتك المعنوية بالتوفيق إلى طاعته وأما الاستكساء بالفعل فعلي وجهين:
الوجه الأول: بالأعمال الصالحة .
والوجه الثاني: بفعل الأسباب الحسية التي تكون بها الكسوة، من إحداث المعامل، والمصانع، وغير ذلك .
وفي الربط بين الطعام والكسوة والهداية مناسبة، لأن الطعام في الحقيقة كسوة البدن باطنًا، لأن الجوع والعطش معناه خلو المعدة من الطعام والشراب، وهذا تعري لها، والكسوة ستر البدن ظاهرًا، والهداية الستر المهم المقصود وهو ستر القلوب والنفوس من عيوب الذنوب .
ثم قال تعالى: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم) : هذا أيضًا من تمام نعمة الله على العبد، أنه جل وعلا يعرض عليه أن يستغفر إلى الله ويتوب إليه مع أنه يقول: (إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا) أي جميع الذنوب من الشرك والكفر والكبائر والصغائر كلها يغفرها الله، ولكن بعد أن يستغفر الإنسان ربه، ولهذا قال: (فاستغفروني أغفر لكم) ، أي اطلبوا مني المغفرة حتى أغفر لكم . ولكن طلب المغفرة ليس مجرد أن يقول الإنسان: اللهم اغفر لي، بل لابد من توبة صادقة يتوب بها الإنسان إلى الله عز وجل .
والتوبة الصادقة هي التي تجمع خمسة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الإنسان مخلصًا فيها لله عز وجل لا يحمله على التوبة مراءاة الناس، ولا تسميعهم، ولا أن يتقرب إليهم بشيء، وإنما يقصد بالتوبة الرجوع إلى الله حقيقة، والإخلاص شرط في كل عمل، ومن جملة الأعمال الصالحة التوبة إلى الله عز وجل، كما قال تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } .
والشرط الثاني: أن يندم الإنسان على ما وقع منه من الذنب، يعني أن يحزن ويتأسف ويعرف أنه ارتكب خطأ حتى يندم عليه، أما أن يكون ارتكاب الخطأ وعدمه عنده على حد سواء، فهذه ليست بتوبة، بل لابد من أن يندم بقلبه ندمًا يتمنى أنه لم يقع منه هذا الذنب .
والشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب، فلا توبة مع الإصرار على الذنوب، كما قال تعالى: { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } أما أن يقول إنه تائب من الذنب وهو مصر عليه، فإنه كاذب مستهزئ بالله عز وجل، فمثلًا لو قال: أتوب إلى الله من الغيبة، ولكنه كلما جلس مجلسًا اغتاب عباد الله فإنه كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من الربا ولكنه مصر عليه، يبيع بالربا ويشتري بالربا فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من استماع الأغاني ولكنه مصر على ذلك فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في إعفاء اللحية وكان سيحلقها وهو يقول: أتوب إلى الله من حلقها فإنه كاذب .
وهكذا جميع المعاصي إذا كان الإنسان مصرًّا عليها فإن دعواه التوبة كذب، ولا تقبل توبته . ومن التخلي عن الذنب والإقلاع عنه أن يرد المظالم إلى أهلها إذا كانت المعصية في حقوق العباد، فإن كانت في أخذ مال فليرد المال إلى من أخذه منه، فإن كان قد مات فليرده إلى ورثته، فإن تعذر عليه أن يعرف الورثة أو نسي الرجل أو ذهب الرجل إلى مكان لا يمكن العثور عليه مثل أن يكون أجنبيًّا فيرجع إلى بلده ولا يدري أين هو، ففي هذه الحال خرج ما عليه صدقة ينويها لصاحب المال الذي يطلبه .
وإذا كان الذنب في غيبة وكان المغتاب قد علم أن هذا الرجل قد اغتابه فلابد أن يذهب إلى المغتاب ويتحلل منه، وينبغي للمغتاب إذا جاءه أخوه يعتذر إليه أن يقبل وأن يسامح عنه، فإذا جاء إليك أخوك معتذرًا مقرًا بالذنب فاعف عنه واصفح: { إن الله يحب المحسنين }، ولكن إذا لم يقبل أن يتسامح عن غيبته إلا بشيء من المال فأعطه المال، أعطه من المال حتى يقتنع ويحللك . كذلك إذا كانت المعصية مسابة بينك وبين أحد حتى ضربته مثلًا، فإن التوبة من ذلك أن تذهب إليه وتستسمح منه، وتقول: ها أنا أمامك اضربني كما ضربتك، حتى يصفح عنك،
المهم أن من الإقلاع عن المعصية إذا كانت لآدمي أن تتحلل منه، سواء كانت مظلمة مال أو بدن أو عرض .
الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود في المستقبل، فإن تاب وأقلع عن الذنب لكن في قلبه أنه إذا حانت الفرصة عاد إلى ذنبه، فإن ذلك لا يقبل منه، فهذه توبة لاعب، فلابد أن يعزم، فإذا عزم ثم قدر أن نفسه سولت له بعد ذلك وفعل المعصية، فإن ذلك لا ينقص التوبة السابقة، لكن يحتاج إلى توبة جديدة من الذنب مرة ثانية .
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، فإن فات الأوان لم تنفع التوبة،
ويفوت الأوان إذا حضر الإنسان الموت . فإذا حضره الموت فلا توبة، ولو تاب لم تنفعه، لقول الله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن }، الآن لا فائدة فيها .
ولهذا لما أغرق فرعون قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، فقيل له { الآن } يعني أتقول هذا الآن { الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } فات الأوان،
ولهذا يجب على الإنسان أن يبادر بالتوبة، لأنه لا يدري متى يفجأه الموت، كم من إنسان مات بغتة ومفاجأة، فليتب إلى الله قبل أن يفوت الأوان .
وكذلك يفوت أوان التوبة إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن الشمس الآن تدور بإذن الله على الأرض، وإذا غابت سجدت تحت عرش الرحمن عز وجل، واستأذنت الله فإن أذن لها استمرت في سيرها، وإلا قيل ارجعي من حيث جئت فترجع بإذن الله وأمره، فتطلع على الناس من المغرب فحينئذ يؤمن جميع الناس، وكل الناس يتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن ذلك لا ينفعهم، قال الله تعالى: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } يعني عند الموت { أو يأتي ربك } يعني يوم القيامة للحساب { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني طلوع الشمس من مغربها { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا } .
هذه خمسة شروط للتوبة لا تقبل إلا بها، فعليك يا أخي أن تبادر بالتوبة إلى الله والرجوع إليه ما دمت في زمن الإمهال، قبل أن يفوتك ذلك، واعلم أنك إذا تبت إلى الله توبة نصوحة فإن الله يتوب عليك، وربما يرفعك إلى منزلة أعلى من منزلتك .
انظر إلى آدم أبيك حيث نهاه الله عن الأكل من الشجرة، فعصى ربه بوسوسة الشيطان له، قال الله تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى }، لما تاب نال الاجتباء، واجتباه الله وصار في منزلة أعلى من قبل أن يعصي ربه، لأن المعصية أحدثت له خجلًا وحياءً من الله، وإنابة ورجوعًا إليه، فصارت حاله أعلى حالًا من قبل .
واعلم أن الله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل كان على راحلته وعليها طعامه وشرابه في أرض فلاة، ما فيها أحد فأضاع الناقة وطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بخطام ناقته متعلق بالشجرة، قد جاء الله بها، فأخذ بخطامها وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، أراد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ولكن أخطأ من شدة الفرح، لأن الإنسان إذا اشتد فرحه لا يدري ما يقول، كما أنه إذا اشتد غضبه لا يدري ما يقول، فالله بتوبة عبده المؤمن أشد فرحًا من فرح هذا بناقته .
وقوله جل ذكره: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني) يعني أنه تبارك وتعالى غني عن العباد، لا ينتفع بطاعتهم ولا تضره معصيتهم . فإنه عز وجل قال في كتابه: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } فالله عز وجل لا ينتفع بأحد ولا يتضرر بأحد لأنه غني عن الخلق جل وعلا، وإنما خلق الخلق لحكمة أرادها تبارك وتعالى، خلقهم لعبادته، ثم إنه وعد الطائعين بالثواب، وتوعد العاصين بالعقاب حكمة منه لأنه خلق الجنة والنار، وقال لكل منكما على ملؤها، فالنار لابد أن تملأ، والجنة لابد أن تملأ كما قال عز وجل: { ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين }
إذن فالله تعالى لن تنفعه طاعة الطائعين، ولن تضره معصية العاصين، ولن يبلغ أحد ضرره مهما كان .
ولهذا قال فيما بعد هذه الجملة: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا متقين، على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملك الله شيئًا، لأن الملك ملكه لا للطائعين ولا للعاصين .
كذلك أيضًا يقول جل وعلا: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئًا لو كان الناس كلهم من جن وإنس وأولهم وآخرهم، لو كانوا كلهم فجارًا وعلى أفجر قلب رجل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا، قال الله تعالى: { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } فالله جل وعلا لا ينقص ملكه بمعصية العصاة، ولا يزيد بطاعة الطائعين، هو ملك الله على كل حال .
ففي هذه الجمل الثلاث دليل على غنى الله سبحانه وتعالى، وكمال سلطانه، وأنه لا يتضرر بأحد ولا ينتفع بأحد لأنه غني عن كل أحد .
ثم قال تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر) ، هذه الجملة تدل على سعة ملك الله عز وجل، والإنس والجن، قاموا كلهم في صعيد واحد فسألوا الله ما تبلغه نفوسهم، من أي مسألة وإن عظمت، فأعطى الله كل إنسان ما سأل بل أعطى الله كل سائل ما سأل فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا، لأن الله جواد، واجد، عظيم الغنى ، واسع العطاء، عز وجل ، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر أغمس المخيط في البحر .
وانظر ماذا ينقص البحر ؟ إنه لا ينقصالبحر شيئًا، ولا يأخذ المخيط من البحر شيئًا يمكن أن ينسب إليه، وذلك لأنه عز وجل واسع الغنى جواد ماجد كريم سبحانه وتعالى .
(يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها) ، ومعنى إنما هي أعمالكم أي الشأن كله أن الإنسان بعمله، يحصي الله أعماله ثم إذا كان يوم القيامة وفاه إياها: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره } ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ؛ لأنه هو الذي أخطأ، وهو الذي منع نفسه الخير، أما إذا وجد خيرًا فليحمد الله، لأن الله هو الذي من عليه أو ً لا وآخرًا، من عليه أولًا بالعمل، ثم من عليه ثانيًا بالجزاء الوافر: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } .
فهذا الحديث حديث عظيم، تناوله العلماء بالشرح واستنباط الفوائد والأحكام منه، وممن أفرد له مؤلفًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فإنه شرح هذا الحديث في كتاب مستقل، فعلى الإنسان أن يتدبر هذا الحديث ويتأمله، ولاسيما الجملة الأخيرة منه، وهي أن الإنسان يجزى بعمله، إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشر، وهذا هو وجه وضع المؤلف لهذا الحديث في باب المجاهدة، أن الإنسان ينبغي له أن يجاهد نفسه وأن يعمل الخير حتى يجد ما عند الله خيرًا وأعظم أجرًا .
| |
|