شرح أحاديث رياض الصالحين .
* باب المجاهدة * ( جزء 2 ) .
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين .
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا .
١٠٠ - السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير .
احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز .
وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) رواه مسلم .
الشرح:
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .
المؤمن القوي: يعني في إيمانه وليس المراد القوي في بدنه، لأن قوة البدن ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله، فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، إن كان الإنسان استعمل هذه
القوة فيما ينفع في الدنيا والآخرة صارت محمودة، وإن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومة .
لكن القوة في قوله صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي أي قوي الإيمان، ولأن كلمة القوي تعود إلى الوصف السابق وهو الإيمان، كما تقول الرجل القوي: أي في رجولته،
كذلك المؤمن القوي يعني في إيمانه، لأن المؤمن القوي في إيمانه تحمله قوة إيمانه على أن يقوم بما أوجب الله عليه، وعلى أن يزيد من
النوافل ما شاء الله، والضعيف الإيمان يكون إيمانه ضعيفًا لا يحمله على فعل الواجبات وترك المحرمات فيقصر كثيرًا .
وقوله: خير يعني خير من المؤمن الضعيف، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف،
ثم قال عليه الصلاة والسلام: وفي كل خير يعني المؤمن القوي، والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير، وإنما قال وفي كل خير لئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه، بل المؤمنن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لاشك .
وهذا الأسلوب يسميه البلاغيون الاحتراز، وهو أن تكلم الإنسان كلامًا يوهم معنى لا يقصده، فيأتي بجملة تبين أنه يقصد المعنى المعين،
ومثال ذلك في القرآن قوله تباركك وتعالى: (( لا يستوي منكم من أنفق
من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًا وعد الله الحسنى)) لما كان قوله: { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } وهم أن الآخرين ليس لهم حظ من هذا، قال: { كلًا وعد الله الحسنى } .
ومن ذلك قوله تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيهه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان }، لما كان هذا يوهم أن داود عنده نقص، قال تعالى: { وكلًا آتينا حكمًا وعلمًا } .
ومن ذلك قوله تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًا وعد الله الحسنى } .
فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: وفي كل خير أي المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، لكن القوي خير وأحب إلى الله.
ثم قال عليه الصلاة والسلام احرص على ما ينفعك هذه وصية من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أمته، وهي وصية جامعة مانعة ،
احرص على ما ينفعك يعني اجتهد في تحصيله ومباشرته،
وضد الذي ينفع الذي فيه ضرر، وما لا نفع فيه ولا ضرر، وذلك لأن الأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم ينفع الإنسان، وقسم يضره، وقسم لا ينفع ولا يضر .
فالإنسان العاقل الذي يقبل وصية النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحرص على ما ينفعه، وما أكثر
الذين يضيعون أوقاتهم اليوم في غير فائدة، بل في مضرة على أنفسهم وعلى دينهم،
وعلى هذا فيجدر بنا أن نقول لمثل هؤلاء: إنكم لم تعملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، إما جهلًا منكم وإما تهاونًا،
لكن المؤمن العاقل الحازم هو الذي يقبل هذه النصيحة، ويحرص على ما ينفعهه في دينه ودنياه .
وهذا الحديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراسًا له في عمله الديني والدنيوي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احرص على ما ينفعك ، وهذه الكلمة جامعة عامة على ما ينفعك أي على كل شيء
ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا، فإنها تقدم منفعة الدين لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد .
فقوله على ما ينفعك يشمل منافع الدين والدنيا وعند التعارض تقدم منافع الدين على منافع الدنيا، وفي قوله احرص على ما ينفعك إشارة على أنه إذا تعارض منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدم المنفعة العليا ؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتدخل في قوله احرص على ما ينفعك .
فإذا اجتمع صلة أخ وصلة عمَّ كلاهما سواء في الحاجة، وأنت لا يمكنك أن تصل الرجلين جميعًا، فهنا تقدم صلة الأخ لأنها أفضل وأنفع، وكذلك أيضًا بين مسجدين كلاهما في البعد سواء لكن أحدهما أكثر جماعة فإننا نقدم الأكثر جماعة لأنه الأفضل، فقوله على ما ينفعك يشير إلى أنه إذا اجتمعت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى فإنها تقدم الأعلى .
وبالعكس إذا كان الإنسان لابد أن يرتكب منهيًّا عنه من أمرين منهي عنهما وكان أحدهما أشد، فإنه يرتكب الأخف،
فالمنهي يقدم الأخف منها، والأوامر يقدم الأعلى منها .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (واستعن بالله) ، ما أروع هذه الكلمة بعد قوله احرص على ما ينفعك لأن الإنسان إذا كان عاقلًا ذكيًّا فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله،
وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين به ، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصًا على النافع وفعلًا له، أعجب بنفسه ونسى الاستعانة بالله،
ولهذا قال: احرص على ما ينفعك واستعن بالله أي لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير .
وفي الحديث: ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شعث نعله إذا انقطع يعني حتى الشيء اليسير لا تنس الله، حتى ولو أردت أن تتوضأ أو تصلي أو تذهب يمينًا أو شمالًا أو تضع شيئًا فاستحضر أنك مستعين بالله عز وجل، وأنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء .
ثم قال: (ولا تعجز) يعني استمر في العمل ولا تعجز وتتأخر، وتقول: إن المدى طويل والشغل كثير، فما دمت قد صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه فلا تعجز .
وهذا الحديث في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات يتكلم عليه فيها الإنسان، لأن له من الصور والمسائل ما لا يحصى .
منها مثلًا: طالب العلم الذي يشرع في كتاب يرى أنه منفعة وفيه مصلحة له، ثم بعد أسبوع أو شهر يمل، وينتقل إلى كتاب آخر، هذا نقول استعان بالله وحرص على ما نفعه ولكنه عجز، كيف عجز ؟
بكونه لم يستمر، لأن معنى قوله لا تعجز أي لا تترك العمل، بل مادمت دخلت فيه على أنه نافع فاستمر فيه .
ولذا تجد هذا الرجل مضى عليه الوقت ولم يحصل شيئًا، لأنه أحيانًا يقرأ في هذا وأحيانًا في هذا .
حتى في المسألة الجزئية تجد بعض طلبة العلم مثلًا أن يراجع مسألة من المسائل في كتاب، ثم يتصفح الكتاب يبحث عن هذه المسألة، فيعرض له أثناء تصفح الكتاب مسألة أخرى يقف عندها، ثم مسألة ثانية فيقف عندها، ثم ثالثة فيقف، ثم يضيع الأصل الذي فتح الكتاب من أجله فيضيع عليه الوقت،
وهذا ما يقع كثيرًا في مثل فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهذا ليس بصحيح بل الصحيح أن تنظر الأصل الذي فتحت الكتاب من أجله .
كذلك أيضًا في تراجم الصحابة في الإصابة مثلًا لابن حجر - رحمه الله -- حين يبحث الطالب عن ترجمة صحابي من الصحابة، ثم يفتح الكتاب من أجل أن يصل إلى ترجمته، فتعرض له ترجمة صحابي آخر فيقف عندها ويقرأها، ثم يفتح الكتاب يجد صحابي آخر، ثم هكذا يضيع عليه الوقت ولا يحصل الترجمة التي من أجلها فتح عليها الكتاب، وهذا فيه ضياع للوقت .
ولهذا كان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من أجله، ولذلك لما دعا عتبان بن مالك الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: أريد أن تأتي لتصلي في بيتي لأتخذ من المكان الذي صليت فيه مصلى لي فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ومعه نفر من أصحابه، فلما وصلوا إلى
بيت عتبان واستأذنوا ودخلوا، وإذا عتبان قد صنع لهم طعامًا، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبدأ بالطعام، بل قال: أين المكان الذي تريد أن نصلي فيه ؟ فأراه إياه، فصلى ثم جلس للطعام .
فهذا دليل على أن الإنسان يبدأ بالأهم، وبالذي تحرك من أجله من أجل ألا يضيع عمله سدى .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لا تعجز أي لا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه، بل استمر لأنك إذا تركت ثم شرعت في عمل آخر، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت، ما تم لك عمل .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا يعني بعد أن تحرص وتبذل الجهد وتستعين بالله وتستمر، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا، لأن هذا أمر فوق إرادتك، أنت فعلت الذي تؤمر به ولكن الله عز وجل غالب على أمره { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون }
ونضرب مثالًا لذلك : إذا سافر رجل يريد العمرة ولكنه في أثناء الطريق تعطلت السيارة، ثم رجع فقال: لو أني أخذت السيارة الأخرى لكان أحسن ولما حصل علي التعطل.
نقول لا تقل هكذا لأنك أنت بذلت الجهد، ولو كان الله عز وجل أراد أن تبلغ
العمرة ليسر لك الأمر، ولكن الله لم يرد ذلك .
فالإنسان إذا بذل ما يستطيع بذله وأخلفت الأمور فحينئذ يفوض الأمر إلى الله لأنه فعل ما يقدر عليه،
ولهذا قال: إن أصابك شيء يعني بعد بذل الجهد والاستعانة بالله عز وجل فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ،
وجزى الله عنا نبينا خير الجزاء فقد بين الحكمة من ذلك، حيث قال: فإن لو تفتح عمل الشيطان أي تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم، حتى تقول: لو أني فعلت لكان كذا، فلا تقل هكذا، والأمر انتهى ولا يمكن أن يتغير عما وقع، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق
السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وسيكون على هذا الوضع مهما عملت .
ولهذا قال: (ولكن قل: قدر الله) أي هذا قدر الله أي تقدير الله وقضاؤه، وما شاء الله عز وجل فعله { إن ربك فعال لما يريد }، لا أحد يمنعه في ملكه ما يشاء، ما شاء فعل عز وجل .
ولكن يجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى لا يفعل شيئًا إلا لحكمة خفيت علينا أو ظهرت لنا، والدليل على هذا قوله تعالى: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيمًا } .
فبين أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم، وكم من شيء كره الإنسان وقوعه فصار في العاقبة خيرًا له، كما قال تعالى: { وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم } ،
ولقد جرت حوادث كثيرة تدل على هذه الآية،
من ذلك قبل عدة سنوات أقلعت طائرة من الرياض متجهة إلى جدة وفيها ركاب كثيرون يزيدون عن ثلاثمائة راكب، وكان أحد الركاب الذين سجلوا في هذه الطائرة في قاعة الانتظار حتى نام، وأعلن
عن إقلاع الطائرة، وذهب الركاب وركبوا، فإذا بالرجل يستيقظ بعد أن أغلق الباب، فندم ندامة شديدة، كيف فاتته الطائرة ؟ ثم إن الله قدر بحكمته أن تحترق الطائرةة وركابها، فسبحان الله كيف نجا هذا الرجل ؟ كره أنه فاتته الطائرة، ولكن كان ذلك خيرًا له .
فأنت إذا بذلت الجهد واستعنت بالله، وصار الأمر على خلاف ما تريد لا تندم، ولا تقل لو أني فعلت لكان كذا، إذا قلت هذا انفتح عليك من الوساوس والندم والأحزان ما يكدر عليك الصفو، فقد انتهى الأمر وراح، وعليك أن تسلم الأمر للجبار عز وجل، قل: قدر الله وما شاء فعل .
والله لو أننا سرنا على هدي هذا الحديث لاسترحنا كثيرًا، لكن تجد الإنسان أولًا: لا يحرص على ما ينفعه بل تمضي أوقاته ليلًا ونهارًا بدون فائدة، تضيع عليه سدى .
ثانيًا: إذا قدر أنه اجتهد في أمر ينفعه ثم فات الأمر ولم يكن على ما توقع تجده يندم، ويقول ليتني ما فعلت كذا، ولو أني فعلت كذا لكان كذا، وهذا ليس بصحيح فأنت أد ما عليك ثم بعد هذا فوض الأمر لله عز وجل .
فإذا قال قائل كيف احتج بالقدر ؟ كيف أقول قدر الله وما شاء فعل ؟ والجواب نقول: نعم هذا احتجاج بالقدر ولكن الاحتجاج بالقدر في موضعه لا بأس به، ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا }، فبين له
أن شركهم بمشيئته والاحتجاج بالقدر على الاستمرار في المعصية هذا حرام لا يجوز، لأن الله قال: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا }
لكن الاحتجاج بالقدر في موضعه هذا لا بأس به،، فإن النبي عليه الصلاة
والسلام دخل ذات ليلة على علي بن أبي طالب وفاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام فوجدهما نائمين، فقال لهما: ما منعكما أن تقوما ؟ يعني: تقومان تتهجدان، فقال علي: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله لو شاء أن نقوم لقمنا، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضرب على فخذيه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا } هذا جدال لكن احتجاج علي بن أبي طالب في محله، لأن النائم ليس عليه حرج فهو ما ترك وهو مستيقظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاثة، ولا يبعد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يختبر علي بن أبي طالب: ماذا يقول في الجواب وسواء كان ذلك أم لم يكن .
فاحتجاج علي بالقدر هنا حجة، وذلك لأنه أمر ليس باختياره: هل النائم يستطيع أن يستيقظ إذا لم يوقظه الله ؟
لا، إذن هو حجة .
فالاحتجاج بالقدر إذا أراد الإنسان أن يستمر على المعصية ليدفع اللوم عن نفسه، نقول مثلًا: يا فلان صل مع الجماعة، تقول والله لو هداني الله لصليت، فهذا ليس بصحيح، يقال لآخر أقلع عن حلق اللحية، يقول: لو هداني الله أقلعت، وأقلع عن الدخان يقول: لو هداني الله لأقلعت، فهذا ليس
بصحيح، لأن هذا يحتج بالقدر ليستمر في المعصية والمخالفة لكن إن وقع الإنسان في خطأ وتاب إلى الله، وأناب إلى الله، وندم، وقال: إن هذا الشيء مقدر علي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه، نقول: هذا
صحيح، إن تاب واحتج بالقدر فليس هناك مانع .
* * *
١٠١ - السابع: عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره )) متفق عليه .
وفي رواية لمسلم: (( حفت بدل حجبت وهو بمعناه: أي بينه وبينها هذا الحجاب، فإذا فعله دخلها .
الشرح:
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حفت النار بالشهوات - وفي لفظه: حجبت - وحفت الجنة بالمكاره - وفي لفظ حجبت الجنة بالمكاره يعني: أحيطت بها، فالنار قد أحيطت بالشهوات والجنة قد أحيطت بالمكاره،
والشهوات هي ما تميل إليه النفس من غير تعقل ولا تبصر ولا مراعاة لدين ولا مراعاة لمروءة .
فالزنى والعياذ بالله شهوة الفرج، تميل إليها النفس كثيرًا، فإذا هتك الإنسان هذا الحجاب، فإنه سيكون سببًا لدخوله النار .
وكذلك شرب الخمر تهواه النفس وتميل إليه، ولهذا جعل الشارع له عقوبة رادعة بالجلد، فإذا هتك الإنسان هذا الحجاب وشرب الخمر أداه ذلك إلى النار والعياذ بالله .
وكذلك حب المال شهوة من شهوات النفس، فإذا سرق الإنسان بدافع شهوة حب جمع المال، فلرغبة أن يستولي على المال الذي ترغبه نفسه، فإذا سرق فقد هتك هذا الحجاب فيصل إلى النار والعياذ بالله .
ومن ذلك الغش من أجل أن يزيد ثمن السلعة، هذا تهواه النفس فيفعله الإنسان فيهتك الحجاب الذي بينه وبين النار فيدخل النار .
الاستطالة على الناس والعلو عليهم والترفع عليهم، كل إنسان يحب هذا وتهواه النفس فإذا فعله الإنسان فقد هتك الحجاب الذي بينه وبين النار فيصل إلى النار والعياذ بالله .
ولكن ما دواء هذه الشهوة التي تميل إليها النفس الأمارة بالسوء ؟
دواؤها ما بعدها قال وحفت الجنة بالمكاره - أو حجبت بالمكاره - يعني: أحيطت بما تكره النفوس، لأن الباطل محبوب للنفس الأمارة بالسوء، والحق مكروه لها، فإذا تجاوز الإنسان هذا المكروه وأكره نفسه الأمارة بالسوء على فعل الواجبات وعلى ترك المحرمات، فحينئذ يصل إلى الجنة .
ولهذا تجد الإنسان يستثقل الصلوات مثلًا، ولاسيما في أيام الشتاء وأيام البرد، ولاسيما إذا كان في الإنسان نوم كثير بعد تعب وجهد، فتجد الصلاة ثقيلة عليه ويكره أن يقوم يصلي ويترك الفراش اللين الدافئ، ولكن إن هو كسر هذا الحاجب وقام بهذا المكروه وصل إلى الجنة .
وكذلك النفس الأمارة بالسوء تدعو صاحبها إلى الزنى، والزنى شهوة وتحبه النفس الأمارة بالسوء، لكن إذا عقلها صاحبها وأكرهها على تجنب هذه الشهوة فهذا كره له، ولكن هو الذي يوصله إلى الجنة، لأن
الجنة حفت بالمكاره .
وأيضًا: الجهاد في سبيل الله مكروه إلى النفس: (كتب عليكم القتال وهو كرهه لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، مكروه للنفس فإذا كره الإنسان هذا الحجاب كان ذلك سببًا لدخول الجنة، واستمع إلى قول الله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا
يضيع أجر المؤمنين }، فإذا كسر الإنسان هذا المكروه وصل إلى الجنة .
كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديد على النفوس شاق عليها، وكل إنسان يتهاون فيه، ويكرهه، يقول: ما علي بالناس، أتعب نفسي معهم وأتعبهم معي ؟ ولكنه إذا كسر هذا المكروه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن هذا سبب لدخول الجنة، وهلم جرًّا، كل الأشياء التي أمر الله بها مكروهة للنفوس لكن أكره نفسك عليها حتى تدخل الجنة .
فاجتناب المحرمات مكروه إلى النفوس وشديد عليها، لاسيما مع قوة الداعي، فإذا أكرهت نفسك على ترك هذه المحرمات فهذا من أسباب دخول الجنة، فلو أن رجلًا شابًّا أعزب في بلاد كفر وحرية، فيها الإنسان ما شاء، وأمامه من النساء الجميلات فتيات شابات وهو شاب أعزب فلا شك أنه سيعاني مشقة عظيمة في ترك الزنى، لأنه متيسر له، وأسبابه كثيرة، لكن إذا أكره نفسه على تركها صار هذا سببًا لدخول الجنة .
واستمع إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام سبعة يظلهم الله في ظله يومم لا ظل إلا ظله أي يوم القيامة حيث تدنو الشمس الحارة العظيمة، التي نحس بحرارتها الآن وبيننا وبينها آلاف السنين، هذه الشمس تدنو يوم القيامة حتى تكون على رءوس الخلائق بمقدار ميل، قال بعض العلماء: الميل: المكحلة، والمكحلة صغيرة أصغر من الإصبع، وقال بعضهم: ميل المسافة، وأيًّا كان الميل، فالشمس قريبة من الرءوس، لكن هناك أناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يظله الله .
يظلهم الله: يعني يخلق لهم ما يظلهم يوم لا ظل إلا ظله، وليس في ذلك اليوم بناء ولا شجر ولا جبال تظلل وليس هناك إلا ظل رب العالمين، هذا الظل يظل الله فيه من شاء من عباده، ومنهم هؤلاء السبعة الذين ذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
إمام عادل: وليس المقصود بالإمام العادل أنه يحكم لأقاربه وغيرهم على حدد سواء، فهذا من معنى العدل، لكن الإمام العادل الذي يطبق شريعة الله في كل شيء، في الحكم في الناس وفي الحكم بين الناس،
هذا هو الإمام العادل .
ولو فرضنا إمام عادل يعدل بين الناس في الحكم لكن لا يطبق فيهم شرع الله فليس بعادل،
العادل الذي يحكم بين الناس وفي الناس بحكم الله عز وجل .
وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه،
ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال وهذا هو الشاهد، فالمرأة ذات منصب يعني شريفة ليست دنيئة، وذات جمال، والجمال يدعو النفس إلى التطلع إلى المرأة .
فقال إني أخاف الله، فالرجل شاب، وفيه شهوة، وأسباب الزنى قائمة والموانع معدومة، ولكن هناك مانع واحد وهو خوف الله عز وجل، فقال: إني أخاف الله، فكان هذا من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
والسادس: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه من شدة إخلاصه .
والسابع: رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، أي فاضت عيناه شوقًا إلى ربه عز وجل، وفاضت عيناه خوفًا من ربه، وكان خاليًا ليس عنده أحد، خالي القلب من الدنيا فليس فيه هواجس، بل خالي إلا من ذكر الله، فذكر الله هذه الخلوة القلبية والخلوة المكانية ففاضت عيناه، فكان هذا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
والمهم أن النار حجبت بالشهوات، والجنة حجبت بالمكاره، فجاهد نفسك على ما يحب الله وإن كرهت، واعلم علم إنسان مجرب أنك إذا أكرهت نفسك على طاعة الله أحببت الطاعة وألفتها، وصرت بعد ما كنت تكرهها تأبى نفسك إذا أردت أن تتخلف عنها .
ونحن نجد بعض الناس يكره أن يصلي مع الجماعة، ويثقل عليه ذلك عندما يبدأ في فعله، لكن إذا به بعد فترة تكون الصلاة مع الجماعة قرة عين، ولو تأمره ألا يصلي لا يطيعك، فأنت عود نفسك وأكرهها أول الأمر، وستلين لك فيما بعد وتنقاد.
أسأل الله أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته .
* * *
١٠٢ - الثامن: عن أبي عبد الله حذيفة بن اليمان، رضي الله عنهما، قال: (( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلتت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلًا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوًا من قيامه ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ثم قام قيامًا طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال:
سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبًا من قيامه )) رواه مسلم .
الشرح:
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة - يعني: في ليلة من الليالي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يصلي معه بعض أصحابه، فمرة صلى معه حذيفة، ومرة صلى معه ابن مسعود رضي الله عنه، ومرة صلى معه ابن عباس رضي الله عنه، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي في الليل وحده، لأن صلاة الليل لا تشرع فيها الجماعة إلا في رمضان، لكن لا بأس أن تقام الجماعة فيها أحيانًا كما في هذا الحديث،
يقول: فافتتح سورة البقرة فقلت يركع عند المائة فقرأ السورة كاملة، فظن أنه يركع بها أي أنه إذا أكمل سورة البقرة ركع، ولكنه مضى صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النساء كاملة ، فقال حذيفة يركع بها، ولكنه مضى فقرأ سورة آل عمرن كاملة في ركعة واحدة، يقرأ مترسلًا غير مستعجل،، إذا مر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بآية سؤال سأل، وإذا مر بآية تعوذ تعوذ .
فجمع عليه الصلاة والسلام بين القراءة وبين الذكر وبين الدعاء وبين التفكر، لأن الذي يسأل عند السؤال ويتعوذ عند التعوذ ويسبح عند التسبيح، لا شك أنه يتأمل قراءته ويتفكر فيها، فيكون هذا القيام روضة من رياض الذكر، قراءة وتسبيحًا ودعاءً وتفكرًا، والنبي عليه الصلاة والسلام في هذا كله لم يركع، فهذه السور الثلاث: البقرة والنساء وآل عمران أكثر من خمسة أجزاء، فتدبر إذا كان الإنسان يقرأها بترسل، ويستعيذ عند آية الوعيد ويسأل عند آية الرحمة ويسبح عند آية التسبيح .
كما تكون المدة ؟ لاشك أنها تكون طويلة، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر .
حتى إن ابن مسعود وهو شاب لما صلى معه ليلة من الليالي يقول أطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام حتى هممت بأمر سوء، قال: بما هممت، قال: هممت أن أجلس وأدعه، عجز أن يصبر من طول القيام .
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ركع بعد أن أتم السور الثلاث، فقال سبحان ربي العظيم، وأطال الركوع نحوًا من قيامه، ثم رفع ركوعه وأطال القيام بعد الركوع وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، حتى كان قيامه نحوًا من ركوعه، ثم سجد صلى الله عليه وسلم فقال سبحان ربي الأعلى وأطال السجود حتى كان سجوده نحوًا من قيامه .
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يصلي فيجعل الصلاة متناسبة، إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود والقيام الذي بعد الركوع والجلوس الذي بين السجدتين، وإذا خفف القراءة خفف الركوع والسجود والقيام من أجل أن تكون الصلاة متناسبة، وهذا فعله صلوات الله وسلامه عليه في الفرض
وفي النفل أيضًا، فكان صلى الله عليه وسلم يجعل صلاته متناسبة .
وفي هذا الحديث عدة فوائد:
الفائدة الأولى: وهي التي ساق المؤلف الحديث من أجلها، أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يعمل عمل المجاهد الذي يجاهد نفسه على الطاعة، لأنه يعمل هذا العمل الشاق ابتغاء وجه الله ورضوانه، كما قال الله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا .
ومنها: جواز إقامة الجماعة في صلاة الليل، لكن هذا ليس دائمًا،
إنما يفعل أحيانًا في غير رمضان، أما في رمضان فإن من السنة أن يقوم الناس في جماعة .
ومنها: أن ينبغي للإنسان في صلاة الليل إذا مر بآية رحمة أن يقف ويسأل، مثل لو مر بذكر الجنة يقف ويقول: اللهم اجعلني من أهلها، اللهم إني أسألك الجنة، وإذا مر بآية وعيد يقف ويقول: أعوذ بالله من ذلك، أعوذ بالله من النار، وإذا مر بآية تسبيح يعني: تعظيم لله سبحانه وتعالى يقف ويسبح الله ويعظمه،
هذا في صلاة الليل،
أما في صلاة الفريضة لا بأس أن يفعل هذا ولكنه ليس بسنة، إن فعله فإنه لا ينهى عنه، وإن ترك فإنه لا يؤمر به، بخلاف صلاة الليل، فإن الأفضل أن يفعل ذلك، أي يتعوذ عند آية الوعيد ويسأل عند آية الرحمة ويسبح عند آية التسبيح .
ومن فوائد هذا الحديث: جواز تقديم السور بعضها على بعض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم سورة النساء على سورة آل عمران، والترتيب أن سورة آل عمران مقدمة على سورة النساء، ولكن هذا والله أعلم كان قبل السنة الأخيرة، فإن السنة الأخيرة كان النبي صلىى الله عليه وسلم يقدم سورة آل عمران على سورة النساء، ولهذا رتبها الصحابة رضي الله عنهم على هذا الترتيب أي أن آل عمران قبل سورة النساء، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقرن بين البقرة وآل عمران في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة .
فالمهم أن الترتيب في الأخير كان تقديم سورة آل عمران على سورة النساء .
ومن فوائد هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح ويكرر التسبيح، لأن حذيفة قال: كان يقول: سبحان ربي العظيم، وكان يطيل، ويقول: سبحان ربي الأعلى، وذكر أنه يطيل، ولم يذكر شيئًا آخر .
فدل هذا على أنك مهما كررت من التسبيح في الركوع والسجود فإنه سنة، ولكن مع هذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في ركوعه وفي سجوده ويكثر من هذا القول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، وكان يقول أيضًا: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، فكل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ودعاء فإنه يسن للإنسان أن يقوله في صلاته .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، وأن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم .
* * *
١٠٣ - التاسع: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به ؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه " . متفق عليه .
١٠٤ - العاشر: عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ويبقى عمله )) متفق عليه .
الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله - فيما نقله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه _ وكان رضي الله عنه أحد الذين يخدمون رسول الله صلى الله عليه وسلم .
صاحب وسادته وسواكه رضي الله عنه_ فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأطال القيام، وقد سبق من حديث عائشة أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، أو حتى تتورم .
تتفطر أحيانًا وتتورم أحيانًا من طول القيام، وصح من حديث حذيفة أنه قرأ في ركعة واحدة بثلاث سور من طوال السور، البقرة، والنساء، وآل عمران .
وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه صلى معه ذات ليلة فأطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام فهم بأمر سوء يعني: بأمر ليس يسر المرء فعله، قال: بما هممت يا أبا عبد الرحمن ؟ قال هممت أن أجلس وأدعه،
يعني أجلس وأدعه قائمًا لأن ابن مسعود تعب وأعيا مع أنه شاب والنبي عليه الصلاة والسلام لم يتعب لأنه عليه الصلاة والسلام كان أشد الناس عبادة لله عز وجل وأتقاهم لله،
ففي هذا دليل على أنه من السنة أن يقوم الإنسان في الليل ويطيل القيام، وأنه إذا فعل ذلك فهو مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن اعلم أنك إذا أطلت القيام فإن السنة أن تطيل الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين والوقوف بعد الركوع، فإن من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يجعل صلاة متناسبة، إذا أطال القيام أطال بقية الأركان، وإذا خفف القيام خفف بقية الأركان .
ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يتبع الميت ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد صدق النبي صلى الله عليه وسلم .
الإنسان إذا مات تبعه المشيعون له فيتبعه أهله يشيعونه إلى المقبرة، وما أعجب الحياة الدنيا وأخسها، وما أدناها، يتولى دفنك من أنت أحب الناس إليه، يدفنوك ويبعدونك عنهم، ولوو أنهم أعطوا أجرة على أن تبقى جسدًا بينهم ما رضوا، فأقرب الناس إليك وأنت أحب الناس إليهم، هم الذي يتولون دفنك، يتبعونك ويشيعونك .
ويتبعه ماله: أي عبيده وخدمه المماليك له، وهذا يمثل الرجل الغني الذي له عبيد وخدم مماليك، يتبعونه، ويتبعه عمله معه فيرجع اثنان ويدعونه وحده ولكن يبقى معه عمله _ نسأل الله أن يجعل عملنا وإياكم _ صالحًا، فيبقى عمله عنده أنيسه في قبره ينفرد به إلى يوم القيامة .
وفي هذا الحديث دليل على أن الدنيا .. كل زينة الحياة الدنيا ترجع ولا تبقى معك في قبرك، المال والبنون زينة الحياة الدنيا ترجع،
من الذي يبقى ؟
فقط العمل .
فعليك يا أخي أن تحرص على الصاحب الذي يبقى ولا ينصرف مع من ينصرف، وعليك أن تجتهد حتى يكون عملك عملًا صالحًا يؤنسك في قبرك إذا انفردت به عن الأحباب والأهل والأولاد .
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة، لأن كثرة العمل يوجب مجاهدة النفس، فإن الإنسان يجاهد نفسه على الأعمال الصالحة التي تبقى بعد موته،
نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة والعافية، وأن يتولانا بعنايته ورعايته ، إنه جواد كريم .
* * *
١٠٥ - الحادي عشر: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك )) رواه البخاري .
الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - في باب المجاهدة فيما نقله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك ))
هذا الحديث يتضمن ترغيبًا وترهيبًا، يتضمن ترغيبًا في الجملة الأولى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله )) وشراك النعل: هو السير الذي على ظهر القدم وهو قريب من الإنسان جدًا ويضرب به المثل في القرب، وذلك لأنه قد تكون الكلمة الواحدة سببًا في دخول الجنة، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة الواحدة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت، فإذا هي توصله إلى جنة النعيم .
ومع ذلك فإن الحديث أعم من هذا، فإن كثرة الطاعات واجتناب المحرمات من أسباب دخول الجنة وهو يسير على من يسره الله عليه، فأنت تجد المؤمن الذي شرح الله صدره للإسلام يصلي براحة وطمأنينة وانشراح صدر ومحبة للصلاة، ويزكي كذلك، ويصوم كذلك، ويحج كذلك، ويفعل الخير كذلك، فهو يسير عليه سهل قريب منه، وتجده يتجنب ما حرمه الله عليه من الأقوال والأفعال وهو يسير عليه .
وأما والعياذ بالله من قد ضاق بالإسلام ذرعًا، وصار الإسلام ثقيلًا عليه فإنه يستثقل الطاعات، ويستثقل اجتناب المحرمات، ولا تصير الجنة أقرب إليه من شراك نعله .
وكذلك النار، وهي الجملة الثانية في الحديث وهي التي فيها التحذير، يقول النبي عليه الصلاة والسلام : (والنار)مثل ذلك أي: أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالًا وهي من سخط الله فيهوى بها في النار كذا وكذا من السنين، وهو لا يدري، وما أكثر الكلمات التي يتكلم بها الإنسان غير مبال بها، وغير مهتم بمدلولها، فترديه في نار جهنم،
نسأل الله العافية .
ألم تروا إلى قصة المنافقين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حيث كانوا يتحدثون فيما بينهم يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعني أنهم واسعوا البطون من كثرة الأكل، وليس لهم هم إلا الأكل، ولا أكذب ألسنًا، يعني: أنهم يتكلمون بالكذب، ولا أجبن عند اللقاء، أي: أنهم يخافون لقاء العدو ولا يثبتون بل يفرون ويهربون .
هكذا يقول المنافقين في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وإذا تأملت وجدت أن هذا ينطبق على المنافقين تمامًا لا على المؤمنين، فالمنافقون أشد الناس حرصًا على الحياة، والمنافقون من أكذب الناس ألسنًا، والمنافقون من أجبن الناس عند اللقاء .
فهذا الوصف حقيقته في هؤلاء المنافقين .
ومع ذلك يقول الله عز وجل: (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب )) يعني ما كنا نقصد الكلام، إنما هو خوض الكلام ولعب ،
فقال الله عز وجل { قل } يعني قل يا محمد: { أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين }
فبين الله عز وجل أن هؤلاء كفروا بعد إيمانهم باستهزائهم بالله وآياته ورسوله، ولهذا يجب على الإنسان أن يقيد منطقه، وأن يحفظ لسانه حتى لا يذل فيهلك، نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق والسلامة من الإثم .
* * *
١٠٦ - الثاني عشر: عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الصفة رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه، وحاجته فقال: سلني فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة .
فقال: أو غير ذلك ؟ قلت: هو ذاك .
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود ))
رواه مسلم .
الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقل عن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه، وكان خادمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذين يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرار عدد، منهم:
ربيعة بن مالك، ومنهم: ابن مسعود، ولهم الشرف بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل الصفة، وأهل الصفة رجال مهاجرون هاجروا إلى المدينة وليس لهم مأوى، فوطنهم النبي عليه الصلاة والسلام في صفة في المسجد النبوي، وكانوا أحيانًا يبلغون الثمانين، وأحيانًا دون ذلك، وكان
الصحابة رضي الله عنهما يأتونهم بالطعام واللبن وغيره مما يتصدقون به عليهم .
فكان ربيعة بن مالك رضي الله عنه يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يأتيه بوضوئه وحاجته،
الوضوء بالفتح: الماء الذي يتوضأ به، والوضوء بالضم: فعل الوضوء، وأما الحاجة فلم يبينها، ولكن المراد كل ما يحتاجه النبي عليه الصلاة والسلام يأتي به إليه .
فقال له ذات يوم: سل، من أجل أن يكافئه النبي عليه الصلاة والسلام على خدمته إياه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق، وكان يقول: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فأراد أن يكافئه، فقال له:
سل، يعني اسأل ما بدا لك، وقد يتوقع الإنسان أن هذا الرجل سيسأل مالًا، ولكن همته كانت عالية،
قال: أسألك مرافقتك في الجنة كما كنت، يعني كأنه يقول كما كنت مرافقًا لك في الدنيا أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك ؟ يعني أو تسأل غير ذلك مما يمكن أن أقوم به، قال: هو ذاك،
يعني لا أسأل إلا ذاك قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود .
وهذا هو الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أعني على نفسك بكثرة السجود،
وكثرة السجود تستلزم كثرة الركوع، وكثرة الركوع تستلزم كثرة القيام، لأن كل صلاة في كل ركعة منها ركوع وسجودان .
فإذا كثر السجود كثر الركوع وكثر القيام،
وذكر السجود دون غيره لأن السجود أفضل هيئةللمصلي، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وإن كان المصلي قريبًا من الله قائمًا كان أو
راكعًا أو ساجدًا أو قاعدًا، لكن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد .
وفي هذا: دليل على فضل السجود، واختلف أهل العلم هل الأفضل إطالة القيام أم إطالة الركوع
والسجود ؟ فمنهم من قال: الأفضل إطالة القيام، ومنهم من قال: الأفضل إطالة الركوع والسجود،
والصحيح: أن الأفضل أن تكون الصلاة متناسبة، وإلا فإن القيام بلا شك أطول من الركوع والسجود في حد ذاته، لكن ينبغي إذا أطال القيام أن يطيل الركوع والسجود، وإذا قصر القيام أن يقصر الركوع والسجود .
وفي هذا: دليل على أن الصلاة مهما أكثر منها فهو خير إلا أنه يستثنى من ذلك أوقات النهي، وأوقات النهي هي من طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس مقدار رمح، وعند قيامها في منتصف النهار حتى تزول،
ومن صلاة العصر إلى الغروب، فإن هذه الأوقات الثلاثة لا يجوز للإنسان أن يصلي فيها صلاة تطوع،
إلا إذا كان لها سبب، كتحية المسجد، وسنة الوضوء، وما أشبه ذلك .
وفي الحديث: دليل على جواز استخدام الرجل الحر، وأن ذلك لا يعد من المسألة المذمومة، فلو أنك قلت لشخص من الناس ممن يقومون بخدمتك: أعطني كذا .
أعطني كذا، فلا بأس، وكذلك لو قلت لصاحب المترل أعطني ماءً، صب لي فنجان قهوة فلا بأس، لأن هذا لا يعد من السؤال المذموم، بل هذا من تمام الضيافة، وقد جرت العادة بمثله .
وفيه: دليل أيضًا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يدخل أحدًا الجنة، ولهذا لم يضمن لهذا الرجل أن يعطيه مطلوبه، ولكنه قال له: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) فإذا قام بكثرة السجود
التي أوصاه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حري بأن يكون مرافقًا للرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة .
* * *