إبراهيم باشا Admin
عدد المساهمات : 703 تاريخ التسجيل : 23/02/2013 الموقع : http://www.ansarsonna.com
| موضوع: شرح أحاديث رياض الصالحين . * باب التفكُّر في عظيم مخلوقاتِ الله تعالى * شرح العلامة الشيخ / محمد بن صالح بن عثيمين . الثلاثاء أكتوبر 04, 2016 9:29 pm | |
|
شرح أحاديث رياض الصالحين .
* باب التفكُّر في عظيم مخلوقاتِ الله تعالى ، و فناء الدنيا ، و أهوال الآخرة و سائر أمورها ، و تقصير النفس و تهذيبها و حملها على الاستقامة *
شرح العلامة الشيخ / محمد بن صالح بن عثيمين .
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا .
قال الله تعالى: ((إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) [سـبأ:46] ،
وقال تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ)) [آل عمران:191،190]،
وقال تعالى: ((أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر)) [الغاشية:21]،
وقال تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا)) [محمد:10] ، و الآيات في الباب كثيرة .
ومن الأحاديث الحديث السابق: ((الكَيِّسُ من دَانَ نَفْسَه)) .
الشرح :
التفكر: هو أن الإنسان يُعملُ فكره في الأمر، حتى يصل فيه إلى نتيجة، و قد أمرَ الله تعالى- به - أي بالتفكر - و حثَّ عليه في كتابه، لما يتوصل إليه الإنسان به من المطَالب العالية و الإيمان و اليقين. قال الله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ))
قل يا محمد للناس جميعًا: ما أُعِظُكُم إلا بواحدة: ما أقدِّم لكم موعظة إلا بواحدة فقط، إذا قمتم بها أدركتم المطلوب، و نجوتم من المرهوب، و هي:((أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا))
(تَقُومُوا لِلَّه) أي: مخلصين له، فتقومون بطاعة الله- عز وجل - على الوجه الذي أُمرتم به، مخلصين له، ثم بعد ذلك تتفكَّروا، فإذا فعلتم ذلك فهذه موعظة، و أيُّ موعِظة.
و في هذه الآية إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا قام لله يعمل، أن يتفكَّر ماذا فعل في هذا العمل ، هل قام به على الوجه المطلوب؟
و هل قصَّر؟ و هل زَادَ ؟
و ماذا حصل له من هذا العمل من طهارة القلب، و زكاة النفس؟ و غير ذلك.
لا يكن كالذي يُؤدي أعماله الصالحة و كأنها عادات يفعلها كل يوم، بل تُفَكِّر، ماذا حصل لك من هذا العبادة، و ماذا أثَّرَتْ على قلبك و على استقامتك.
ولنضرب لهذا مثلًا بالصلاة، قال الله تبارك و تعالى: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)) [البقرة:45]،
وقال: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر)) [العنكبوت:45] ،
فلنفكِّر .. هل نحن إذا صلَّينا زِدْنا طاقة و قوة و نشاطًا على الأعمال الصالحة، حتى تكون الصلاة مُعِينَةً لنا ؟
الواقع أن هذا لا يكون إلا نادرًا باعتبار أفراد الناس، فانظر ماذا حدث لك من الصلاة، هل صارت مُعينةً لك على طاعة الله تعالى، و على المصائب و على غيرها. كما يذكر عن النبي عليه الصلاة و السلام : (أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) أي: إذا أهمَّه و أغمَّه فَزِعَ إلى الصلاة. كذلك قال الله تعالى: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر))[العنكبوت:45]،
فانظر في صلاتك، هل أنت إذا صلَّيت وجدت في نفسك كراهة للفحشاء، و كراهة للمنكر، و كراهة المعاصي؟ أو أن الصلاة لا تفيدك في هذا ؟
إذا عرفتَ هذه الأمور ، عرفت نتائج هذه الأعمال الصالحة، و كنت مُتَّعِظًا بما وَعَظَك به النبي صلى الله عليه و سلم.
ومثال آخر في الزكاة و هي: المال الواجب في الأموال الزكويَّة، يصرفه الإنسان في الجهات التي أمر الله بها، و قد بيَّن الله فوائدها، و قد قال الله لرسوله: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) [التوبة:103]،
فإذا أدَّيت الزكاة فانظر هل طهَّرتك هذه الزكاة من الأخلاق الرَّذيلة؟ هل طهرتك من الذنوب؟ وهل زكَّت مالك؟ هل زكَّت نفسك؟ !
كثير من الناس يُؤدِّي الزكاة و كأنها غُرمٌ، يُؤدِّيه وهو كَارِهٌ - نسأل الله العافية- يؤديها وهو لا يشعر بأنها تُزكِّي نفسه،
و على هذا بقية الأعمال، قم لله ثم تفكر ماذا حصل. فهذه موعظة عظيمة إذا اتَّعَظ الإنسان بها، نفعته و صلحت أحواله،
نسأل الله أن يُصلح لنا الأعمال و الأحوال.
ثم ذكر المؤلف- رحمه الله تعالى - قول الله تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ. . .)) [آل عمران:191].
هذه الآية في أول الآيات العشر التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرؤها كلما استيقظ من صلاة الليل . رواه البخاري ومسلم .
فينبغي للإنسان إذا استيقظ من صلاة الليل أن يقرأ من هذه الآية إلى آخر سورة آل عمران : (( العشرة الأخيرة من سورة آل عمران)) .
قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) (البقرة: 164) يعني في خلقهما من حيث الحجمُ و الكبرُ و العظمة، و غير ذلك مما أودع الله فيهما، في هذا الخلق آيات ، ففي النجوم آية من آيات الله، وفي الشمس آية من آيات الله، و كذا القمر، آيات من آيات الله، و كذا الأشجار و البحار و الأنهار،
و في كل ما خلق الله في السماوات و الأرض آيات عظيمة، تَدُلُّ على كمال وحدانيته جلَّ و علا، و على كمال قدرته وعلى كمال رحمته وعلى كمال حكمته، يقول عز وجل: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ)) [البقرة:164] . وجمع السماوات وأفرد الأرض، لأن السماوات سبع كما ذكره الله في عدة آيات: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ)) [الطلاق:12]، ((قُلْ مَنْ رَبُّ السَّموَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) [المؤمنون:86] . أما الأرض، فإن الله تعالى لم يذكرها في القرآن إلا مُفردة، لأن المراد بها الجنس الشامل لجميع الأرضين،
و قد أشار الله في سورة الطلاق إلى أن الأرضين سبْع، فقال: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ)) [الطلاق:12] ، أي: مثلُهُنَّ في العدد، و ليس مثلهن في الخلقة و العِظم ، بل السماوات أعظم من الأرض بكثير لكنهن مثل السماوات في العدد،
و قد جاءت السنة صريحة في ذلك، مثل قول النبي عليه الصلاة السلام : (مَن اقتطع شبرًا مِن الأرض ظلمًا طوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرَضين) رواه البخاري ومسلم .
((وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار)) يكون من وجوه متعددة: أولًا: من جهة أن الليل مُظلم و النهار مُضيء، كما قال الله تعالى : ((وجعلنا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)) [الإسراء:12] .
ثانيًا: اختلافُهُما في الطول والقصر، أحيانًا يطول الليل، وأحيانًا يطول النهار، وأحيانًا يتساويان كما قال الله تعالى: ((يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)) [الحج:61] ، أي: يُدخل هذا في هذا مرة فيأخذ منه، و هذا في هذا مرة فيأخذ منه، هذا من اختلاف الليل و النهار.
ثالثًا: ومن اختلاف الليل و النهار اختلافُهُما في الحر و البرودة تارةً ، يكون الجو باردًا و تارةً يكون حارًا.
رابعًا: ومن اختلافهما أيضًا، الخصب و الجدب، تارة تكون الدنيا جدبًا و قَحْطًا و سنينَ، و تارة تكون خصبةً و رَبيعًا ورَخاء.
خامسًا: ومن اختلاف الليل و النهار اختلافهما في الحرب و السِّلم، تارة تكون حرْبًا و تارة تكون سِلْمًا و تارة تكون عِزًّا و تارة تكون ذِلةً، كما قال الله تعالى: ((وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) [آل عمران:140].
ومَنْ تأمل اختلاف الليل و النهار وجد فيهما من آيات الله- عز وجل - ما يَبْهر العُقُول.
و قوله تعالى: (لآياتٍ) أي: علامات واضحات على وحدانية الله، و كمال قدرته و عزته و علمه و رحمته و غير ذلك من آياته.
و قوله: (لأولِي الأَلْبَابِ) أي: لأصحاب الألباب ، و الألباب جمع لُبٌّ: وهو العقل،
و أولوا الألباب: هم أصحاب العقول ؛ و ذلك لأن العقل لُبٌّ، و الإنسان بلا عقل قشور بلا لب،
فالأصل في الإنسان هو العقل، فلهذا سُميَ لُبًّا، و أما الإنسان بلا عقل فإنه قُشور.
و لكن ما المراد بالعقل؟ هل المراد بالعقل الذكاء؟ الجواب: لا، الذَّكاء شيء و العقل شيء آخر، رُبَّ ذكي نابغ في ذكائه لكنه مجنون في تصرفاته .
فالعقل في الحقيقة هو ما يعقل صاحبه عن سوء التصرف، هذا العقل، و إن لم يكن ذكيًّا ،
فإذا منَّ الله على الإنسان بالذكاء و العقل تمت عليه النعمة،
و قد يكون الإنسان ذكيًّا وليس بعاقل، أو عاقلًا و ليس بذكي.
جميع الكفار - و إن كانوا أذكياء - فإنهم ليسوا عُقَلاء، كما قال الله : ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)) [الأنفال:22] .
كل إنسان يتصرف تصرفًا سيئًا فليس بعاقل، فأولوا الألباب هم أُولُو العقول الذين يتفكَّرون في خلق السماوات و الأرض و ينظرون في الآيات، و يعتبرون بها، و يستدِلُّون بها على من هي آيات له، هؤلاء هم أصحاب العقول، و هم أصحاب الألباب ،
فاحرص يا أخي على أن تتفكر في خلق السماوات و الأرض، و أن تتدبَّر ما فيهما من الآيات، و كذلك في الأيام و الليالي، و كيف تتغير الأحوال، و كيف تنقلب من حال إلى حال، و كل ذلك بيد الله عزَّ وجلَّ، و كل ذلك من آياته.
ثم قال تعالى: في وصف أولي الألباب: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) [آل عمران:191] ، أي: يذكرون الله في كلِّ حال قيامًا و قعودًا وعلى جنوبهم،
و ذِكْرُ الله- عز وجل - نوعان:
* نوع مطلَق في كل وقت، وهو الذي يُشرَعُ للإنسان دائمًا،
أوصى النبي صلى الله عليه و سلم رجلًا قال له: إن شَرَائع الإسلام كثُرت عليَّ، و إني كبير فأوصني. فقال : (لا يزالُ لِسانُكَ رطبًا من ذِكْرِ الله) أخرجه الترمذي، و ابن ماجه،وأحمد و الحاكم و قال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه و قال الذهبي: صحيح .
وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه و سلم يذكر الله على كل أحيانه) ، أي: في كل حينٍ،
فذكر الله هنا مُطْلَق لا يتقيد بعدد، بل هو إلى الإنسان على حسب نشاطه.
* و النوع الثاني: ذكرٌ مُقَيَّد بعدد، أو في حال من الأحوال، وهو كثير، منها أذكار الصلوات في الركوع، و السجود، و بعد السلام، و أذكار الدخول للمنزل، و الخروج منه، وأذكار الدخول للمسجد و الخروج منه، و أذكار النوم و الاستيقاظ و أذكار الركوب على الدابة، و أشياء كثيرة شرعها الله عز و جل لعباده؛ من أجل أن يكونوا دائمًا على ذكر الله عز وجل،
فالمهم أن الله شَرَعَ لعباده من الأذكار ما يجعلهم إذا حافظوا عليها يذكرون الله، قيامًا و قُعُودًا و على جنوبهم.
و اعلم أن الذكر أيضًا يكون على وجهين:
ذكرٌ تامٌّ: وهو ما تواطأَ عليه القلب و اللِّسان. و ذكرٌ ناقصٌ: وهو ما كان باللسان مع غفلة القلب،
و أكثر الناس- نسأل الله أن يُعاملنا جميعًا بِعفوه- عندهم ذكر الله باللسان مع غفلة القلب، فتجده يذكر الله وقلبه يذهب يمينًا و شمالًا، في دكانه و سَيَّارته و في بَيْعِه و شِرَائه. لكن هو مأجور على كل حال، و لكنَّ الذِّكر التَّامَ هو الذي يكون ذكرًا لله باللسان و بالقلب، يعني أنك تذكرُ الله بلسانك و تذكر الله بقلبك،
فأحيانًا يكون الذكر بالقلب أنفعَ للعبد من الذكر المجرَّد، إذا تفكَّر الإنسان في نفسه و قلبه، في آيات الله الكونية و الشرعية، بقدر ما يستطيع، حَصَلَ على خير كثير.
قال: ((وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ)) يقولون: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا))
يتفكرون في خلق السماوات و الأرض لماذا خُلقت؟ و كيف خُلقت؟ وما أشبه ذلك،
ثم يقولون بقلوبهم وألسنتهم ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)) أي: لا بد أن يكون لِخلقِ السماوات و الأرض غاية محمودة، يُحمَدَ الربُّ عليها عز وجل، ليس خلقُ السماوات و الأرض باطلًا، خُلِقَتْ ليوجد الناس يأكلون و يشربون و يتمتعون كما تتمتع الأنعام!
لا، بل هي مخلوقة لغرض عظيم. قال الله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56] .
((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا))فالذين يظنون خلق السماوات و الأرض باطلًا هم أصحاب النار، قال الله تبارك و تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)) [ص:27] .
فكل من ظنَ أن الله- سبحانه تعالى - خَلَق هذه الخليقة لتوجَدَ و تَفْنَى فقط- بدون أن يكون هنالك غاية و مَرْجع - فإنه من الذين كفروا ((ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)).
فالناس لا بد أن يموتوا، و لا بد أن يحاسبوا، و لا بد أن يبعثوا، و لا بد أن يَؤُولوا إلى دارين لا ثالث لهما، إما الجنة و إما النار،
نسأل الله أن يجعلنا و إياكم من أهل الجنة و أن يُعيذنا من النار.
و قوله: (سُبْحَانَكَ) أي: تنزيها لك أن تخلُقَ هذه السماوات و الأرض باطلًا.
(فَقِنَا عَذَابَ النَّار) فيتوسلون إلى الله- عز وجل - بما يثنون عليه من صفات الكمال، أن يقيهم عذاب النار،
و الوقاية من عذاب النار تكون بأمرين: الأمر الأول: أن يَعصِمك الله من الذنوب؛ لأن الذنوب هي سبب دخول النار . الأمر الثاني: أن يمنَّ الله عليك إذا عصيت بالتوبة و الإقلاع؛ لأن الإنسان بشر لا بد أن يعصي، و لكن باب التوبة مفتوح و لله الحمد، قال الله: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) [الزمر:53].
مهما عَمِلتَ من المعاصي، إذا رجعت إلى الله، و تُبْتَ؛ تاب الله عليك، و لكن إذا كانت المعصية تتعلق بآدمي، فلا بد من الاستبراء من حقه، إما بوفائه أو باستحلاله منه؛ لأنه حق آدمي لا يغفر، فحق الله يغفره مهما عظم، وحق الآدمي لا بد أن تستبرأ منه إما بإبراء أو أداء، بخلاف حق الله.
ومع هذا، لو فرض أنك لم تُدرك صاحِبك و لم تعرفه، أو لم تتمكن من وفائها، لأنها دَرَاهم كثيرة، و ليس عندك وفاء، و عَلِمَ الله من نيَّتك أنك صَادِق في توبتك، فإن الله يتحمل عنك يوم القيامة و يرضي صاحبك.
وقوله تعالى: ((أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) [الغاشية:20] .
(أَفَلا يَنْظُرُونَ) هذا من باب الحث على النظر في هذه الأمور الأربعة:
الأول: إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، فتتأمل كيف خلقها الله على هذا الجسم الكبير ، المتحمل لحمل الأثقال، كما قال تعالى: ((وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنْفُسِ)) [النحل:7]. هذه الإبل الكبيرة الأجسام القوية ذلَّلها الله لعباده، حتى كان الصبي يقودها إلى ما يريد، مع أنها لو عتت ما استطاع الناس أن يدركوها،
و لهذا كان من المشروع أن يقول الإنسان إذا استوى على ظهرها راكبًا: ((سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)) [الزخرف:13]،
أي: مُطِيقين، لأن قرين الإنسان مَن كان على مِثله و على شاكلته،
فمعنى المقرن يعني المطيق، أي لسنا مُطيقين لها لولا أن سخَّرها الله عز وجل، سخرها الله لعباده، فمنها ركوبهم و منها يأكلون، منها يُركب و يُحمل عليه، و يكون ممرنا على ذلك، و منها ما يؤكل: يأكله الناس و ينتفعون به، و كذلك أيضًا لهم فيها منافع و مشارب: فيتخذون من جلودها بيوتًا و من أصوافها و أوبارها و أشعارها أثاثًا و متاعًا إلى حين، إلى غير ذلك من الآيات العظيمة التي تحملها هذه الإبل.
الثاني : ((وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)) هذه السماء العظيمة، رفعها الله - عز وجل - رفعًا عظيمًا باهرًا لا يستطيع أن يَنَاله أحد من الخلق، حتى الجن على قوتهم يقولون: ((وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا)) [الجـن:9]،
و يقول الله عز وجل : ((وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)) [الأنبياء:32].
و في هذه السماوات العظيمة، كيف رَفعها الله تعالى بغير عمد: ((اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)) [الرعد:2]، أي: ترونها مرفوعة بغير عمد فاعتبروا بها.
و في هذه السماوات من آيات الله_ عز وجل _الشيء الكثير، فهي رُفعت هذا الرَّفع العظيم، و فيما بينها و بين الأرض آيات عظيمة من الأفلاك، والنجوم، و الشمس، و القمر، و الرياح، و السحب، و غير ذلك من آيات الله.
الثالث: ((وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)) هذه الجبال الصُّم العظيمة الكبيرة، لو أن الخلق اجتمعوا كلهم بقواهم ما كونوا مثلها.
الآن تجد المعدات الكبيرة إذا أرادوا أن يَرْدِموا شيئًا لا يردمون إلا شيئًا يسيرًا مع المشقة الشديدة،
هذه الجبال الصُّم يجب أن نتفكَّر فيها، كيف نَصَبَها الله عز وجل؟ نَصَبَها الله- عز وجل - على حكمة عظيمة، لأن الله - سبحانه و تعالى- يجعل في هذه الجبال التي نصبها مصالح عظيمة و كبيرة، منها أنها رَوَاسِيَ ترْسِي الأرض و تمسكها عن الاضطراب، كما قال الله تعالى: ((وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)) [لقمان:10] ، أي: أن تضطرب ، فلولا أن الله رسَاها بهذه الجبال، لكانت مضطربة كالسفينة على ظهر الماء في شدة الأمواج، و لكن الله جَعَلَها بهذه الجبال ساكنةً قارة، لا تضطرب و لا تميد بأهلها.
هذه الجبال أيضًا تقي من رياح شديدة عاصفة في بعض الأماكن، و تقي أيضًا من بُرُودة عظيمة تأتى من ناحية القطب، و تقي أيضًا من حرارة شديدة. و كذلك في سفوحها آيةٌ من آيات الله- عز وجل - من النبات، و الأودية، و المعادن شيءٌ عظيمٌ كثيرٌ، فلهذا قال: ((وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ)) .
الرابع: ((وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) فجعلها الله سطحًا، وسَخَّرها للعباد،و جعلها ذلولًا لا مُذلَّلة، بحيث لم تكن تربتها ليِّنة جدًّا لا يستقرون عليها، و لا صلبة جدًّا لا ينتفعون منها، بل جعلها- سبحانه و تعالى - رخوة مسطحة مَبْسُوطة، حتى ينتفع الناس على سطحها بما يَسَّر الله- سبحانه و تعالى - لهم من الأسباب النَّافعة. و هذه الأرض المسطحة هي أيضًا كروية ؛ أي أنها شبهُ الكرة، مُسْتَديرة من كل جانب، إلا أنها مفلطَحَةٌ من الناحية الشمالية والجنوبية؛ من ناحية القطبين الشمالي و الجنوبي.
ولذلك لو أن أحدًا من الناس رَكَب طائرة متجهة إلى المغرب- على خط مستقيم - لكان يخرُجُ إلى المكان الذي أقلعت منه الطائرة، و هذا يدلُّ على أنها مُسْتديرة، لأن الإنسان يَصِلُ طَرَفَها بطَرَفَها. ويدل على هذا قوله تعالى: ((إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ)) [الانشقاق 1ـ 4]،
وهذا يكون يوم القيامة، فقوله: ((وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ)) يدل على أنها الآن ليست ممدودة، لكنها مَسْطُوحة ، يعني أنها كالسطح، لأنها لكبر جرمها لا يتبين فيها الانحناء الذي يكون في الكُرة،
فهذه الأشياء الأربعة: ((أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت))
يحثُّنا الله عز وجل بالنَّظر فيها بعين البصر، و عين البصيرة؛ بعين البصر الذي هو الإدراك الحسي و يمين البصيرة التي هي الإدراك العقلي، حتى نستدلَّ بها على ما تدل عليه من آيات الله من قُدْرةٍ و عِلْم و رحمة و حكمة و غير ذلك.
وقوله: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَيَنْظُرُوا)) ، ولم يكمل المؤلف الآية؛ لأن هذا وَرَدَ في عِدَّة آيات من كتاب الله،
ففي عِدَّةِ آيات يحثُّ الله _عز وجل _ عباده إلى أن يسيروا في الأرض؛ فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
ومنها قوله تعالى في سورة القتال: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) [محمد:10]،
فأمر الله بالسَّير و السير ينقسم إلى قسمين: سيرٌ بالقدم، و سيرٌ بالقَلْب. 1_ أمَّا السَّير بالقدم: بأن يَسير الإنسان في الأرض على أقدامه، أو على راحلته من بعير أو سَيَّارة، أو طائرة، أو غيرها حتى ينظر ماذا حصل للكافرين، و ماذا كانت حال الكافرين.
2_ و أمَّا السير بالقلب: فهذا يكون بالتَّأمل و التفكير فيما نُقِل عن أخبارهم. و أصح كتاب، و أصدق كتاب، و أنفع كتاب، نقل أخبار الأولين كتاب الله - عزَّ وجلَّ - ، كما قال الله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ))[يوسف:111].
و القرآن مملوء من أخبار الأولين المكذبين للرسل، و المؤيدين للرسل، و بيَّن الله عاقبة هؤلاء و هؤلاء.
و لهذا ينبغي للإنسان أن يقرأ الآيات التي فيها أخبارُ مَن سبق، و أن يسأل عن معناها و يستفسر ؛ حتى يكون على بصيرة من الأمر، و كذلك أيضًا ما جاءت به السنة من أخبار الماضين، فإنها جاءت بالأحاديث الكثيرة النافعة، و هي إذا صَحَّت عن النبي عليه الصلاة و السلام فإنها أصدق منقولٍ من الأخبار. ثم بعد ذلك ما نقله المؤرِّخون، و لكن يجب أن تكون مما نقله المؤرخون على حذر؛ لأن غالب كتب التاريخ ليس لها أصل و ليس لها إسناد ، و إنما هي أخبار تتناقل بين الناس، فيجب الحذر كل الحذر منها، و أن يحرِصَ الإنسان على أن يتتبعها بِرِفق، ثمَّ هذه الأخبار الواردة في غير الكتاب و السنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شَهِدَ شَرعُنا ببطلانه، فهذا يجب رده و بيان خطئه و كذبه حتى يكون الناس منه على بَصيرة.
القسم الثاني: ما أيده القرآن و السنة، فهذا يُقبل بِشهادة القرآن و السنة له بالصِّحة.
القسم الثالث: ما لم يؤيِّدُهُ القرآن و لا السنة، فهذا يُتوقَّف فيه؛ لأن الأمم السابقة ليس بيننا و بينهم إسناد مُتِّصل حتى يمكن أن نعرف صحة ما نقل عنهم ، و لكنه يُنقل، و تكون أخبارًا إسرائيلية، ينظر فيها، و لكن يتوقَّف فيها فلا تقبل و لا ترد هذا هو العدل.
ثم أشار المؤلف_ رحمه الله_ إلى الحديث السَّابق، وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نفْسَهُ وَعَمِلَ لما بَعْدَ الموت، والعَاجِزُ مَنْ أتبع نَفْسَهُ هَواهَا وتَمَنَّى على الله الأمَانيَّ). الكَيِّس: هو الحازم الفِطن المتنبه المنتهز للفُرَص، هو الذي يَدِين نفسه؛ أي يحاسبها، فينظر ماذا أهمل من الواجب، و ماذا فعل من المحرم، و ماذا أتى به من الواجب، و ماذا اجتنب من المحرَّم، حتى يصلِح نفسه .
أما العاجزُ: فهو الذي يتبع نفسه هواها، فما هوَتْ نفسُه أخذ به، و ما كرهت نفسه لم يأخذ به، سواء وافق شرع الله أم لا. هذا هو العاجز، و ما أكثر العاجزين اليوم، الذين يتبعون أنفسهم هواها، و لا يُبالون بمخالفة الكتاب و السنة، و لا يهتمون بهذا،
نسأل الله لنا و لهم الهداية.
و قوله: (تمنَّى علَى الله الأماني) يعني: يقول سيُغفر لي، و سوف أستقيم فيما بعد، وسوف أقوم بالواجب فيما بعد، و سوف أترك هذا فيما بعد، أو يقولُ: الله يهديني، و إذا نصحتَه قال: اسأل الله لي الهداية، و ما أشبه ذلك؛ هذا عاجز.
و الكَيِّس: هو الذي يعمل بحزم و جِدٍّ، و يُحاسب نفسه، و يكون عنده قوة في أمر الله، و في دين الله، و في شرع الله، حتَّى يتمكَّن من ضَبْط نفسه،
و إلا فإن الله يقول في كتابه: عن زوجة العزيز : ((وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي)) [يوسف:53] ،
نسأل الله أن يرحمنا و إيَّاكم برحمته، و يُعيننا و إياكم على ذكره و شكره و حُسْن عبادته.
| |
|