شرح أحاديث رياض الصالحين
باب التَّـــوبــة ( جـزء 3 )
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ / إبراهيم باشا
21- وعن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب- رضي الله عنه- من بَنيه حين عَمِيَ، قال: سمعت كعب بن مالك - رضي الله عنه- يحدث بحديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدٌ تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله - تعالى- بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكَرَ في الناس منها.
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتُهُما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا واستقبل عددًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد،
والمسلمون مع رسول الله كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله،
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعرُ ـ أي : أميل.
فتجهَّزَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقتُ أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدُّ،
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئًا ،
ثم غدوت فرجعت ولم أقضِ شيئًا،
فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو
أي : تقدَّم الغُزَاةُ وسَبَقوا
فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدَّر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلا رجلاً مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء،
ولم يذكُرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبسه بُرَداهُ، والنظر في عِطفيه،
أي: جانبيه.
وفي الكلام إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه.
فقال له معاذ بن جبل - رضي الله عنه-: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَبَيْنا هو على ذلك رأي رجلاً مُبَيِّضًا
أي : لابس البياض .
يزول به السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خَيْثَمة، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري- وهو الذي تصدَّق بصاع من التمر حين لَمَزهُ المنافقون،
قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي ـ أي : حزني.
فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بِمَ أخرُجُ من سخطه غدًا، واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي،
فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا زاح عنِّي الباطل، حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيء أبدًا، فأَجْمَعتُ صِدقَه،
وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعًا وثمانين رجلاً، فقَبِلَ منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئتُ،
فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، لكني والله لقد علمت لئن حدثتكَ اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله يسخطُكَ عليَّ، وإن حدثتك حديث صدق تجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عُقْبى الله عز وجل، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنك.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أما هذا فقد صَدَق ، فقم حتى يقضي الله فيك))
وسار رجال من بني سلمة، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
قال فوالله مازالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم؛ لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي
قال: فذَكَروا لي رجُلين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة. قال: حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه،
قال: فاجتنبنا الناس- أو قال: تغيروا لنا- حتى تَنَكَّرتْ لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاسْتَكَانا وقعدا في بيوتهما يَبْكيان، وأما أنا فكنت أَشَبَّ القومِ وأجْلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريبًا منه وأُسارِقُه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عنِّي، حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ـ الحائط أي : البستان.
وهو ابن عمِّي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلَمُني أُحِبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عينايَ، وتوليت حتى تسورت الجدار،
فبينا أنا أمشي في سوق المدينة؟ إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا.
فقرأته فإذا فيه: أما بعد؛ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك،
فقلت حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء ، فَتَيَمَّمْتُ بها التنور فَسَجَرتهُا ـ أي : أحرقتها.
حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي ـ أي : أبطأ.
إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطلِّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنَّها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك.
فقلت لامرأتي: الحَقِيْ بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أُميَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال ابن أمية شيخٌ ضائعٌ ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك. فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء وَوَالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا،
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب!
فلبث بذلك عشر ليال، فكَمُلَ لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.
ثم صليت صلاة الفجر صَبَاحَ خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فَبَيْنا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منّا، قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخٍ أوفى على سَلْعٍ
أي : صعد على جبل سلْع.
يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فَخَرَرْتُ ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء فرج. فآذَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله- عز وجل- علينا حين صلَّى صلاة الفجر فذهب الناس يُبَشروننا، فذهب قبل صاحبيَّ مبشرون، وركض رجل إليَّ فَرَسًا، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي وأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرعَ من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يُبشِّرُني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعْرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمَّمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أي : أقصد رسول الله
يتلقَّاني الناس فوجًا فوجًا يُهنئونني بالتوبة ويقولون لي: لِتَهنَكَ توبة الله عليك،
حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام طلحة بن عُبيد الله-رضي الله عنه- يُهرْول حتى صافَحَني وهنَّأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، فكان كعب لا ينساها لطلحة،
قال كعب: فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرقُ وجهُه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك: فقلت: أمِنْ عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا. بل من عند الله- عز وجل-
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُهُ حتى كأن وجهه قطعة قمرٍ، وكنا نعرف ذلك منه ،
فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنْخَلِعَ من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسِكْ عليكَ بعض مالك فهو خير لك، فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإنَّ توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين أبْلاهُ الله - تعالى- في صِدقِ الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ـ أبلاه هنا بمعنى: أنعم عليه.
وإني لأرجو أن يحفظني الله- تعالى- فيما بقي،
قال: فأنزل الله تعالى : ﴿ لقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾ حتى بلغ: ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ حتى بلغ: ﴿اتَّقُوا اللًّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة:117ـ 119]،
قال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صِدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبتُه، فأهلَكَ كما هلَكَ الذين كَذَبوا: إن الله تعالى قال للذين كَذَبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحدٍ، فقال الله تعالى: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة:95،96] .
قال كعب: كنا خُلِّفْنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى الله- تعالى- فيه بذلك؟ قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾
وليس الذي ذكر مما خُلِّفنا تَخَلَّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
أخرجه البخاري، ومسلم.
وفي رواية : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس)).
وفي رواية: ( وكان لا يقدُمُ من سفر إلا نهارًا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه ).
الشرح
هذا حديثُ كعب بن مالك، في قصَّةِ تَخَلُّفهِ عن غزوة تبوك،
وكانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة.
غزا النبي صلى الله عليه وسلم الروم وهم على دين النصارى حين بَلَغَهُ أنهم يجمعون له، فغزاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقام بتبوك عشرين ليلة،
ولكنه لم يرَ كيدًا ولم يرَ عدوًّا فرجع.
وكانت هذه الغزوة في أيام الحرِّ حين طابت الثمار وصار المنافقون يحبُّون الدنيا على الآخرة، فتخلَّفَ المنافقون عن هذه الغزوة ولجأوا إلى الظل والرطب والتمر، وبعدتْ عليهم الشُّقَّة والعياذ بالله.
أما المؤمنون الخُلَّص، فإنهم خرجوا مع النبي- عليه الصلاة والسلام- ولم يُثْنِ عزمهم بُعْدُ الشُّقَّة ولا طيب الثمار.
إلا أن كعب بن مالك- رضي الله عنه- تخلَّف عن غزوة تبوك بلا عذر، وهو من المؤمنين الخُلَّص، ولهذا قال: ((إنه ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة غزاها قط))
كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم قد شارك فيها كعب- رضي الله عنه-
فهو من المجاهدين في سبيل الله ((إلا في غزوة بدر))، فقد تخلَّف فيها كعب وغيره لأن النبي - عليه الصلاة والسلام- خرج من المدينة لا يريد القتال،
ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمائةٍ وبضعة عشر رجلاً فقط؛ لأنهم كانوا يريدون أن يأخذوا عيرًا لقريش، أي : إبل محمَّلة قدمت من الشام تريد مكة وتَمُرُّ بالمدينة.
فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام- من أجل أن يستقبل هذه العير ويأخذها،
وذلك لأن أهل مكة أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم؛ فلهذا كانت أموالهم غنيمةً للنبي- عليه الصلاة والسلام- ويحل له أن يخرج ليأخذها، وليس في ذلك عدوان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل هذا أخذٌ لبعض حقهم.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليس معهم إلا سبعون بعيرًا وفَرسَان فقط؛ وليس معهم عُدَّةٌ والعدد قليل، ولكنَّ الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد لينفِّذَ الله ما أراد عز وجل.
فسمع أبو سفيان - وهو قائد العير- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه ليأخذ العير؛ فعدل عن سيره إلى الساحل وأرسل إلى قريش صارخًا يستنجدهم - أي يستغيثهم- ويقول: هلمُّوا أنقذوا العِير.
فاجتمعت قريش، وخرج كُبراؤها وزُعماؤها وشُرفاؤها فيما بين تسعمائةٍ إلى ألف رجل.
خرجوا كما قال الله عنهم، خرجوا من ديارهم ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه﴾[الأنفال:47] .
ولما كانوا في أثناء الطريق وعلموا أن العير نَجَت تراجعوا فيما بينهم وقالوا: العير نجت، فما لنا وللقتال؟
فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرًا فنقيم فيها ثلاثًا ننحرُ الجزور، ونسقى الخمور، ونطعمُ الطعام، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا !
هكذا قالوا، بطرًا واستكبارًا وفخرًا، ولكن- الحمد لله- صارت العرب تتحدث بهم بالهزيمة النكراء التي لم يَذُق العرب مثلها، لما التقوا بالنبي- عليه الصلاة والسلام-
وكان ذلك في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم السابع عشر منه، التقوا فأوحى الله عز وجل إلى الملائكة : ﴿أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾[الأنفال: 12]،
انظر! في الآية تثبيتٌ للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، فما أقربَ النصر في هذه الحال ؟!
رعب في قلوب الأعداء، وثبات في قلوب المؤمنين.
فثبَّتَ الله المؤمنين ثباتًا عظيمًا، وأنزل في قلوب الذين كفروا الرعب.
قال الله سبحانه ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال:12]،
أي : كل مفْصَل، اضربوا فالأمر مُيَسَرٌ لكم.
فجعل المسلمون- ولله الحمد- يجلدون فيهم؛ فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين رجلاً،
والذين قُتلوا ليسوا من أطرفهم، الذين قُتلوا كلهم من صناديدهم وكبرائهم، وأُخذَ منهم أربعةُ وعشرون رجلاً يُسحَبون سحبًا وألقوا في قليب من قُلُبِ بدر، سُحبوا حتى أُلقوا في القليب جثثًا هامدة،
ووقف عليهم النبي - عليه الصلاة والسلام_ وقال لهم: يا فلان ابن فلان، يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، هل وجدتم ما وعََدَ ربكُم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا.
فقالوا : يا رسول الله، كيف تكلم أناسًا قد جيِّفوا؟ قال: ((والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون))؛
أخرجه البخاري، ومسلم .
لأنهم موتى، وهذه - ولله الحمد- نعمة، علينا أن نشكر الله عز وجل عليها كلما ذكرناها.
نصر الله نبيه، وسمى الله هذا اليوم ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال:41].
هذا اليوم فرَّق الله فيه الحق والباطل تفريقًا عظيمًا.
وانظر إلى قدرة الله عز وجل في هذا اليوم، انتصر ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً على نحو ألف رجل أكمل منهم عُدَّةً وأقوى،
وهؤلاء ليس معهم إلا عدد قليل من الإبل والخيل، لكنَّ نصر الله عز وجل إذا نزل لقوم لم يقم أمامهم أحد،
وإلى هذا أشار الله بقوله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، ليس عندكم شيء ﴿فاتقوا الله لعلكم تشكرون﴾ [آل عمران: 123]،
ولما كان المسلمون حين فتحوا مكة وخرجوا باثني عشَرَ ألفًا وأمامهم هوزان وثقيف؛ فأعجب المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نُغلَب اليوم عن قلَّة، فغلبهم ثلاثةُ آلافٍ وخمس مائة رجل.
غلبوا اثني عشر ألف رجلٍ بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعجبوا بكثرتهم، قالوا: لن نغلب اليوم عن قلَّة، فأراهم الله عز وجل أن كثرتهم لن تنفعهم.
قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25] .
أتدرون ماذا حَصَلَ لأهل بدر؟
اطَّلع الله عليهم وقال لهم: اعمَلُوا ما شئتم فقد غَفَرتُ لكم.
كل معصيةٍ تقعُ منهم فإنها مغفورة، لأن الثمن مقدَّم.
فهذه الغزوة صارت سببًا لكل خير،
حتى إن حاطب بن أبي بلتعة- رضي الله عنه- لما حصَلَ منه ما حَصَل في كتابه لأهل مكة عندما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يغزوهم غزوة الفتح كتب هو- رضي الله عنه- إلى أهل مكة يخبرهم، ولكن الله أَطْلَعَ نبيَّه على ذلك.
أرسل حاطب بن أبي بلتعة الكتاب مع امرأة فأُخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي،
فأرسل علي بن أبي طالب وواحدًا معه حتى لحقوها في روضة تسمى روضة خاخ، فأمسكوها وقالوا لها: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، فقالوا لها: أين الكتاب؟ والله ما كَذَبْنا ولا كُذِبْنا، أين الكتاب؟ لتخرجنَّه أو لننزعنَّ ثيابك؟ فلما رأت ذلك أخرجته، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فأَخَذوه.
والحمد لله أنه لم يصلْ إلى قريش، فصار في هذا نعمة من الله على المسلمين وعلى حاطب، لأن الذي أراد ما حصل من نعمة الله.
فلما ردوا الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا حاطب، ما هذا))؟ فاعتذر.
فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عُنُقَ هذا المنافق، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك، لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ، فقد غَفَرتُ لكم))
أخرجه البخاري، ومسلم .
وكان حاطب من أهل بدر رضي الله عنه.
فالمهمُّ أن هذه تخلف عنها كعب، لكنها ليست في أول الأمر، إلا في ثاني الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقتال، وإنما خرج للعير، ولكن الله جمع بينه وبين عدوِّه على غير ميعاد، وكانت غزاةً مباركةً ولله الحمد.
ثم ذكر بيعته النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في منى، حيث بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقال: إنني لا أحبُّ أن يكون لي بدلها بدر.
يعني هي أحبُّ إليه من غزوة؛ لأنها بيعة عظيمة.
لكن يقول: كانت بدر أذْكَرَ في الناس منها، أي أكثر ذكرًا، لأن الغزوة اشتُهرت بخلاف البيعة.
على كل حال- رضي الله عنه- يُسلِّي نفسه بأنه إن فاتته بدر فقد حصلت له بيعة العقبة، فرضي الله عن كعب وعن جميع الصحابة.
يقول رضي الله عنه: ((إني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفت عنه في تلك الغزوة)) - أي: غزوة تبوك-
كان قويَّ البدن، ياسر الحال، حتى إنه كان عنده راحلتان في تلك الغزوة، وما جمع راحلتين في غزوة قبلها أبدًا، وقد استعد وتجهَّزَ- رضي الله عنه -
وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، أي: أظهر خلاف ما يريد،
وهذا من حكمته وحنكته في الحرب؛ لأن لو أظهر وجهه تبيَّن ذلك لعدوِّه، فربما يستعد له أكثر، وربما يذهب عن مكانه الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
فكان مثلاً إذا أراد أن يخرج إلى الجنوب ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الشمال،
أو أراد أن يخرج إلى الشرق ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الغرب ؛
حتى لا يطَّلع العدو على أسراره .
إلا في غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أمرها ووضَّحها وجلاَّها لأصحابه؛ وذلك لأمور:
أولاً: أنها كانت في شدة الحر حين طابت الثمار، والنفوس مجبولة على الركون إلى الكسل وإلى الرخاء.
ثانيًا: أن المدى بعيد من المدينة إلى تبوك، ففيها مفاوز ورمالٌ وعطشٌ وشمس.
ثالثًا: أن العدو كثير وهم الروم، اجتمعوا في عدد هائل حسب ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم،
فلذلك جلَّى أمرها وأوضح أمر الغزوة، وأخبر أنه خارج إلى تبوك إلى عدوٍّ كثير، وإلى مكان بعيد حتى يتأهب الناس.
فخرج المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتخلَّف إلا من خذله الله بالنفاق، وثلاثة رجال فقط هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، رضي الله عنهم.
هؤلاء من المؤمنين الخُلَّص، لكن تخلَّفوا لأمر أراده الله عز وجل.
أما غيرهم ممن تخلَّف فإنهم منافقون منغمسون في النفاق، نسأل الله العافية.
فخرج النبي - عليه الصلاة والسلام- بأصحابه- وهم كثير- إلى جهة تبوك حتى نزل بها، ولكن الله تعالى لم يجمع بينه وبين عدوه، بل بقي عشرين يومًا في ذلك المكان، ثم انصرف على غير حرب.
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: ((إن الرسول صلى الله عليه وسلم تجهَّز هو والمسلمون وخرجوا من المدينة)) .
أما هو - رضي الله عنه- فتأخَّر وجعل يغدو كل صباح يرحِّل راحلته ويقول: ألْحَق بهم، ولكنه لا يفعل شيئًا، ثم يفعل كل يوم، حتى تمادى به الأمر ولم يدرك.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح فإنه- حَرِيٌ أن يُحرمَ إياه،
كما قال الله سبحانه ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام:110]،
فالإنسان إذا علم الحق ولم يقبله ويذعنْ له من أول وهلة، فإن ذلك قد يفوته ويحرم إياه- والعياذ بالله-
كما أن الإنسان إذا لم يصبر على المصيبة من أول الأمر فإنه يُحرَمُ أجرها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))
أخرجه البخاري، ومسلم.
فعليك- يا أخي - أن تبادر بالأعمال الصالحة، ولا تتأخر فتتمادى بك الأيام ثم تعجز وتكسل ويغلب عليك الشيطان والهوى فتتأخر،
فها هو- رضي الله عنه- كل يوم يقول: أخرُج، ولكن تمادى به الأمر ولم يخرج.
يقول: فكان يَحِزُّ في نفسه أنه إذا خرج إلى سوق المدينة وإذا المدينة ليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار إلا رجل مغموس في النفاق- والعياذ بالله- قد غمسه نفاقه فلم يخرج، أو رجل معذور عذره الله عز وجل.
فكان يعتب على نفسه: كيف لا يبقى في المدينة إلا هؤلاء وأقعد معهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكره ولم يسأل عنه حتى وَصَلَ إلى تبوك.
فبينما هو جالس وأصحابه في تبوك سأل عنه، فقال رسول الله أين كعب بن مالك؟ فتكلم فيه رجل من بني سلمه وغمزه، ولكن دافع عنه معاذ بن جبل - رضي الله عنه- فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجب بشيء، لا على الذي غمزه ولا على الذي ردَّ.
فبينما هو كذلك إذ رأى رجلاً مبيَّضًا، يعني بياضًا يزول به السراب من بعيد،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((كنْ أبا خيثمة الأنصاري)) فكان أبا خيثمة.
وهذا إمَّا من فراسةِ النبي - عليه الصلاة والسلام- وإمَّا من قوة نظره صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أنه من أقوى الرجال نظرًا وسمعًا ونطقًا وفي كل شيء.
وأعطي قوةَ ثلاثين رجلاً بالنسبة للنساء- عليه الصلاة والسلام-
وكذلك أعطي قوةً في غير ذلك، صلوات ربي وسلامه عليه.
وأبو خيثمة هذا هو الذي تصدَّق بصاعٍ عندما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فتصدَّق الناس كل بحسب حاله.
فكان الرجل إذا جاء بالصدقة الكثيرة قال المنافقون: هذا مُراءٍ ما أكثر الصدقة ابتغاء وجه الله،
وإذا جاء الرجل الفقير بالصدقة اليسيرة قالوا: إن الله غنيٌّ عن صاعِ هذا.
انظر- والعياذ بالله- يَلمزون المؤمنين من هُنا ومن هنا،
كما قال الله ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ [التوبة:79] ،
أي : إذا تصدَّقوا بما يستطيعون قالوا: إن الله غني عن صاعك.
وهكذا المنافق شرٌّ على المسلمين،
فإن رأى أهل الخير لمزهم ، وإن رأى المقصِّرين لمزهم،
وهو أخبثُ عباد الله، فهو في الدَّرك الأسفل من النار.
والمنافقون في زمننا هذا إذا رأوا أهل الخير وأهل الدعوة وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: هؤلاء متزمِّتون، هؤلاء متشدِّدون، وهؤلاء أصوليون، هؤلاء رجعيون، وما أشبه ذلك من الكلام.
فكل هذا مَوروثٌ عن المنافقين في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام- إلى يومنا هذا.
لا تقولوا ليس عندنا منافقون! بل عندنا منافقون ولهم علامات كثيرة!!
وقد ذكر ابن القيم- رحمه الله- في كتابه ((مدارج السَّالكين)) في الجزء الأول صفاتٍ كثيرة من صفات المنافقين، كلها مبيَّنة في كتاب الله عز وجل ،
فإذا رأيت الإنسان إذا تكلم الناس عنده في أهل الخير قال: هذا متزمت، هذا متشدد،
وإذا رأى الإنسان المحسن الذي بقدر ما عنده يحسن قال: هذا بخيل، الله غنيٌ عن صدقته.
وإذا رأيت رجلاً يلمزُ المؤمنين من هنا ومن هنا، فاعلم أنه منافق والعياذ بالله ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة:79]،
فاستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى:
أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لابد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل .
وأذكرُ حديثًا قاله النبي- عليه الصلاة والسلام- في الذين يتقدمون إلى المسجد ، ولكن لا يتقدمون إلى الصف الأول، بل يكونون في مؤخره.
قال: ((لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله))
أخرجه مسلم .
إذا عوَّد الإنسان نفسه على التأخير أخره الله عز وجل.
فبادر بالأعمال الصالحة من حين أن يأتي طلبها من عند الله عز وجل.
الفائدة الثانية:
أن المنافقين يلمزون المؤمنين،
إن تصدَّقَ المسلمون بكثير قالوا: هؤلاء مراؤون، وإن قلَّلوا بحسب طاقتهم قالوا: إن الله غنيٌ عن عملك وغنيٌ عن صاعك، كما سبق.
وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((من تصدَّقَ بعَدْلِ تمرة من كسب طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبه- أي: بما يعادل تمرة- كما يربي أحدكم فَلُوَّه- أي مهره: الحصان الصغير - حتى تكون مثل الجبل))،
أخرجه البخاري، ومسلم.
وهي تمرة أو ما يعادلها.
بل قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))
أخرجه البخاري، ومسلم.
أي: نصف تمرة،
بل قال الله عز وجل:﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:7،8]،
والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين.
يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع قافلاً من الغزو، بدأ يفكر ماذا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع؟
يريد أن يتحدَّث بحديث وإن كان كذبًا، من أجل أن يعذره النبي صلى الله عليه وسلم فيه،
وجعل يُشاور ذوي الرأي من أهله ماذا يقول،
ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ النبي- عليه الصلاة والسلام- المدينة، ذهب عنه كلُّ ما جمعه من الباطل،
وعزم على أن يُبَيِّنَ للنبي صلى الله عليه وسلم الحق،
يقول: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ودخل المسجد،
وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد عليه الصلاة والسلام، وهكذا أمر جابرًا-رضي الله عنه- كما سأذكره إن شاء الله،
فدخل المسجد وصلَّى وجَلَسَ للناس ، فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير عُذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفرُ لهم ولكن ذلك لا يفيدهم والعياذ بالله؛
لأن الله قال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة:80]،
فيقول: أما أنا فعزمت أن أصْدُقَ النبي - عليه الصلاة والسلام- وأخبره بالصدق، فدخلت المسجد فسلَّمت عليه، فتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب- أي: الذي غير راضٍ عني- ثم قال: ((تعالَ)) فلما دنوتُ منه قال لي: ((ما خلَّفك؟)).
فقال رضي الله عنه: يا رسول الله إني لم أتخلَّف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيتُ جدلاً-
يعني لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفتُ كيف أتخلَّص منه لأن الله أعطاني جدلاً- ولكني لا أحدِّثُكَ اليوم حديثًا ترضى به عني فيوشك أن يسخط الله عليَّ في ذلك. رضي الله عنه.
انظر إلى الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدِّثك بالكذب، ولو حدثتُك بالكذب، ورضيتَ عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله عليَّ.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالصِّدق، فأجَّله.
وفي هذا من الفوائد:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قد يَمُنُّ على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه حُسن النية.
فإنَّ كعبًا- رضي الله عنه- لما هم أن يُزَوِّرَ على الرسول - عليه الصلاة والسلام- جلّى الله ذلك عن قلبه وأزاحه عن قلبه، وعزم على أن يصدِّق النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان إذا قدِمَ بلده، أن يعمِدَ إلى المسجد قبل أن يدخل إلى بيته فيصلي فيه ركعتين؛ لأن هذه سنة النبي- عليه الصلاة والسلام- القوليّة والفعليّة
أما الفعلية: فكما في حديث كعب بن مالك.
وأما القولية: فإن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- حين باع على النبي صلى الله عليه وسلم جَمَله في أثناء الطريق واستثنى أن يركبه إلى المدينة وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه، فقدم جابر المدينة وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم قبله فجاء إلى رسول الله فأمره أن يدخل المسجد ويصلي ركعتين.
أخرجه البخاري، ومسلم.
وما أظن أحدًا من الناس اليوم- إلا قليلاً - يعمل هذه السنة،
وهذا لجهل الناس بهذا، وإلا فهو سهل والحمد لله.
وسواء صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك، أو صليت في أدنى مسجد من مساجد البلد الذي أنت فيه حصلت السنَّة.
ثالثًا: أن كعب بن مالك- رضي الله عنه - رجل قوي الحجة فصيح،
ولكنْ لتقواه وخوفه من الله امتنع أن يكذب،
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحق.
رابعًا: أن الإنسان المغضب قد يتبسَّم،
فإذا قال قائل: كيف أعرفُ أن هذا تبسَّم رضًا أو تبسَّم سخط؟
قلنا: إن هذا يُعرف بالقرائن، كتلوُّن الوجه وتغيره.
فالإنسان يعرف أن هذا الرجل تَبَسَّمَ رضًا بما صنع أو تبسَّم سخطًا عليه.
خامسًا: أنه يجوز للإنسان أن يسلِّم قائمًا على القاعد؛ لأن كعبًا سلَّم وهو قائم،
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((تعال)).
سادسًا: أن الكلام عن قُرب أبلغ من الكلام عن بُعد،
فإنه كان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكلِّمَ كعب بن مالك ولو كان بعيدًا عنه، لكنه أمرَهُ أن يدنو منه؛ لأن هذا أبلغ في الأخذ والردِّ والمعاتبة،
فلذلك قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ((ادنُ)).
سابعًا: كمال يقين كعب بن مالك- رضي الله عنه-
حيث إنه قال: إنني أستطيع أن أخرج بعذر من الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم يغضب الله عليَّ فيه غدًا.
ثامنًا: إن الله يعلم السر وأخفى،
فإن كعبًا خاف أن يسمع الله قوله ومحاورته للرسول- عليه الصلاة والسلام- فيُنزلُ الله فيه قرآنًا، كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي جاءت إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام- تشكو زوجها حين ظاهرَ منها،
فأنزل الله فيها آية من القرآن:﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة:1] .
يقول كعب: إنه أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصدَقَهُ القول وأخبرهُ أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أما هذا فقد صَدَق))
ويكفي له فخرًا أن وَصَفَهُ النبي - عليه الصلاة والسلام- بالصدق: ((أمّا هذا فقد صدق، فاذهب حتى يقضي الله فيك ما شاء)).
فذهب الرجل مُسْتَسلمًا لأمر الله عز وجل مؤمنًا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلَحِقَهُ قوم من بني سلمة من قومه وجعلوا يزيِّنون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تُذنب ذنبًا قبل هذا،
يعني مما تخلَّفت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا استغفر لك الرسول صلى الله عليه وسلم غفرَ الله لك، فارجع كذِّب نفسك، قل: إني معذور ، حتى يستغفر لك الرسول - عليه الصلاة والسلام- فيمن استغفر لهم ممن جاؤوا يعتذرون إليه.
فهمَّ أن يفعل رضي الله عنه، ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقَبَة العظيمة التي تُتْلى في كتاب الله إلى يوم القيامة.
فسأل قومه: هل أحدٌ صَنَعَ مثلما صَنَعْتُ؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية ومُرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك.
يقول: ((فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا لي فيهما أُسوة)).
أحيانًا يُقَيِّضُ الله للإنسان ما يجعله يَدَعُ الشرَّ اقتداءً بغيره وتأسِّيًا به.
فهو- رضي الله عنه- لما ذُكر له هذان الرجلان- وهما من خيار عباد الله من الذين شَهِدوا بدرًا - فقال: ((لي فيهما أسوة. فمَضَيتُ)) أي: لم يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يُكَلِّموهم.
فهجرهم المسلمون،
ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذُهلوا، وتنكَّرت لهم الأرض ، فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛
لأنهم يمشون إن سلَّموا لا يُرَدُّ عليهم السَّلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام.
وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقًا- لا يُسَلِّم عليهم السلام العادي.
يقول كعب: كنتُ أحضرُ وأسَلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري: أحرَّك شفتيه برد السلام أم لا.
هذا وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وما ظنك برجل يُهجَر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض،
وفعلاً ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقُوا على هذه الحال مدَّةَ خمسين يومًا، أي: شهرًا كاملاً وعشرين يومًا. والناس قد هجروهم فلا يسلِّمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلَّموا. وكأنهم في الناس إبلٌ جربٌ لا يُقِرُ بهم أحد.
فضاقت عليهم الأمور وصعبت عليهم الأحوال، وفرُّوا إلى الله عز وجل،
ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.
فكان يحضر ويسلِّم على النبي - عليه الصلاة والسلام- ولكن في آخر الأمر ربما يتخلَّف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجلُ أن يأتي إلى قوم يصلي معهم وهم لا يُكلمونه أبدًا، لا بكلمة طيبةٍ ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت عليهم الأرض، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة تامة،
ولما تمَّت لهم أربعون ليلة أرسل إليهم النبي- عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوا نساءهم.
إلى هذا الحد، فرَّق بينهم وبين نسائهم.
وما ظنُّك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يُعزَلُ عن امرأته؟ أمر عظيم، ولكن مع ذلك لما جاءهم رسول الرسول – عليه الصلاة والسلام - وقال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك)) قال: أطلقها أم ماذا؟ لأنه لو قال له طلِّقها لطلَّقَها بكل سهولة؛ طاعة الله ورسوله، فسأل قال: أطلِّقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام- يأُمرك أن تعتزل أهلك. وبَقِي على ظاهر اللفظ.
حتى الصحابي الذي أُرسِلَ ما حرَّف النص، لا معنى ولا لفظًا، قال هكذا، قال: ولا أدري.
وهذا من أدب الصحابة رضي الله عنهم، ما قال: أظُنُّ أنه يريد أن تُطَلِّقها، ولا: أظنُّ أنه يريد أن لا تطلِّقها! ما قال شيئًا، بل قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا. فقال كعب لزوجته الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها.
((فأما صاحِبَاي فاستكانا في بيوتهما يبكيان)) لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في الأسواق، والناس قد هجروهم لا يلتفتُ إليهم أحد، ولا يسلِّم عليهم أحد، وإذا سلَّموا لا يُرَدُ عليهم السلام، فعجزوا عن تحمُّلِ هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.
يقول: ((وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجْلدَهم)) أشبُّهم : أقواهم وأجْلدَهم: أصبرهم. لأنه أشبُّ منهم أصغر منهم سنًا، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد،
لا يكلمه أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجرهم، وكان الصحابة- رضي الله عنهم- أطوعَ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول: ((وكنت آتي المسجد فأصلي وأسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس للناس بعد الصلاة فأقول: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام أم لا)).
أي: ما يردُّ عليه ردًّا يُسمع، هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، ولكن امتثالاً لما أوحى الله إليه أن يُهجر هؤلاء القوم هَجَرهم.
ويقول: كنت أُصلي وأُسارقُ النبي صلى الله عليه وسلم النظر، يعني: أنظر إليه أحيانًا وأنا أصلي ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ وإذا التفتُّ إليه أعرض عني.
كل هذا من شدة الهجر.
يقول: ((فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة وطال عليَّ جفوة الناس، تسوَّرتُ حائطًا لأبي قتادة رضي الله عنه)) تسوَّره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب مُغلق. والعلم عند الله.
يقول: ((فسلَّمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام)) وهو ابن عمِّه وأحب الناس إليه، ومع ذلك لم يردَّ عليه السلام، مع أن الرجل كان مجفيًّا من الناس منبوذًا، لا يُكلم ولا يسلِّم عليه ولا يُردُّ عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمِّه أبو قتادة.
كل هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يحابون أحدًا في دين الله ولو كان أقرب الناس إليهم،
فقال له: أنشُدك الله، هل تعلم أني أحبُّ الله ورسوله؟ فلم يرد عليه.
مرتين يُناشده مناشدة هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا؟ وأبو قتادة يدري، ويعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله.
فلما ردَّ عليه الثالثة وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فقال: الله ورسوله أعلم.
لم يكلّمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا. قال كلمة لا تعدُّ خطابًا، قال: الله ورسوله أعلم.
يقول: ففاضت عيناي، أي: بكى- رضي الله عنه- أن رجلاً- ابن عمه- أحب الناس إليه لا يُكَلِّمه مع هذه المناشدة العظيمة.
مع أنها- أيضًا- مسألة تعبُّدية؛ لأن قوله أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ طلبُ شهادة، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه.
وتسوَّر البستان أي: خرج إلى السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نَبَطي من أنباط الشام- والنبطيُّ الذي ليس بعربي ولا بعجمي، وسُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري يستنبطون الماء- يقول: من يدُلُّني على كعب بن مالك!
انظر إلى أهل الشر ينتهزون الفرص!
فعندما قال: من يدلني على كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتبًا؛ لأن الكُتَّاب في ذلك العهد قليلون جدًا.
يقول: ((فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك- يعني الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك: ملك غسَّان كافرًا-وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة)) ، يعني لا تبقى في الدار في ذُلٍّ وضياع وهوان فتعال إلينا –الحق بنا نُوَاسك -يعني: تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا.
ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالى ورسوله، ومحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قال: وهذه من البلاء، يعني: هذا من الامتحان. وصد رضي الله عنه،
رجل مجفوٌّ لا يُكَلَّم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لانتهزَ الفرصة بدعوةِ هذا الملك وذهب إليه، لكن عنده إيمانٌ راسخ.
يقول: قلت: هذه من البلاء. ثم ذهب إلى التنُّور فسَجَرَهُ فيه: يعني أوقدها بالتنور.
وإنما أوقدها في التنور ولم يجعلها معه لئلا توسوسَ له نفسه بعد ذلك أن يذهب إلى هذا الملك، فأتلفها حتى ييأس منها ولا يُحاول أن يجعلها حجَّة يذهب بها إلى هذا الملك. ثم بقي على ذلك مُدّة.
ففي هذه القطعة من الحديث
دليل على جواز التخلف عن الجماعة إذا كان الإنسان مهجورًا منبوذًا وعجزت نفسهُ أن تتحمَّل هذا ،
كما فعل صاحبا كعب بن مالك رضي الله عنهم.
لأنه لا شك أنه من الضيق والحرج أن يأتي الإنسان إلى المسجد مع الجماعة لا يسلَّم عليه، ولا يُردُّ سلامه، ومهجور ومنبوذ، هذا تضيق به نفسه ذرعًا ولا يستطيع، وهذا عذرٌ كما قاله العلماء.
ولمتابعة قراءة شرح الحديث اضغط على :
تكملة شرح رياض الصالحين باب التوبة ( جزء 3 )