إبراهيم باشا Admin
عدد المساهمات : 703 تاريخ التسجيل : 23/02/2013 الموقع : http://www.ansarsonna.com
| موضوع: شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصِّدْق ( جزء 2 ) الأربعاء مايو 06, 2015 9:26 pm | |
|
شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصِّدْق ( جزء 2 )
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا
57 ـ عن أبي ثابت ، وقيل : أبي سعيد ، وقيل : أبي الوليد سهل بن حنيف ، وهو بدري ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من سأل الله تعالى الشهادة بِصِدقٍ بلَّغَه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه))
أخرجه مسلم.
الشرح هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله ـ في باب الصدق ، والشاهد منه قوله : ((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق)) . والشهادة مرتبة عالية بعد الصدِّيقيَّة ، كما قال الله سبحانه : ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69] ، وهي أنواع كثيرة : منها : الشهادة بأحكام الله عز وجل على عباد الله ، وهذه شهادة العلماء التي قال الله فيها : ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 18] . وقد ذهب كثير من العلماء في تفسير قوله : ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ إلى أنهم العلماء ولا شك أن العلماء شهداء، فيشهدون بأن الله تعالى أرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ويَشْهَدون على الأمة بأنها بلغت شريعة الله ، ويشهدون في أحكام الله : هذا حلال ، وهذا حرام ، وهذا واجب ، وهذا مستحب ، وهذا مكره ، ولا يعرف هذا إلا أهل العلم ؛ لذلك كانوا شهداء . ومن الشهداء أيضًا : من يُصاب بالطعن والبطن والحرق والغرق : المطعون والمبطون والحريق والغريق وما أشبههم . ومن الشهداء : الذين قتلوا في سبيل الله . ومن الشهداء: الذين يُقتلون دون أموالهم ودون أنفسهم ، كما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما سأله رجل وقال: ((أرأيت يا رسول الله إن جاءني رجل يطلب مالي ))ـ أي عنوة ـ قال : ((لا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتَلَني ؟ قال قاتِله ، قال أرأيت إن قَتَلْتُه ؟ قال : هو في النار ـ لأنه معتدٍ ظالم ـ قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال هو في النار )) وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (( من قُتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد ، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد )) ومن الشهداء أيضًا : من قُتل ظلمًا ، كأن يعتدي عليه إنسان فيقتله غيلة ـ ظلمًا ـ فهذا أيضًا شهيد . ولكن أعلى الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله ؛ كما قال تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران 169ـ171] ،
هؤلاء الشهداء في الآية هم : الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ، فما قاتلوا لحظوظ أنفسهم ، وما قاتلوا لأموالهم ، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ، كما قال ذلك النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين سُئِلَ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميَّة ويقاتل ليرى مكانه، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) هذا الميزان ميزانٌ عدل ، لا يخيس ميزان وضعه النبي صلى الله عليه وسلم يزن الإنسان به عمله . فمن قاتل لهذه الكلمة فهو في سبيل الله ، إن قتلت فأنت شهيد ، وإن غنمت فأنت سعيد ، كما قال الله سبحانه : ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ إما الشهادة وإما الظفر والنصر. ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة:52] ، أي : إما أن الله يعذبكم ، ويقينا شركم ، كما فعل الله تعالى بالأحزاب الذين تجمعوا على المدينة يريدون قتال الرسول عليه الصلاة والسلام ، فأرسل الله عليهم ريحًا وجنودًا وألقى في قلوبهم الرعب ،﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ كما حصل في بدر ، فإن الله عذب المشركين بأيدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، هذا الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا هو الشهيد . فإذا سأل الإنسان ربه وقال : اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ـ ولا تكون الشهادة إلا بالقتال ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ـ فإن الله تعالى إذا عَلِمَ منه صدق القول والنية أنزله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه .
بقي علينا الذي يُقاتل دفاعًا عن بلده : هل هو في سبيل الله أو لا ؟ نقول : إن كنت تقاتل دفاعًا عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا . أما إذا قاتلت من أجل أنها وطن فقط فهذا ليس في سبيل الله ؛ لأن الميزان الذي وَضَعَهُ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا ينطبق عليه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، وما سوى ذلك فليس في سبيل الله ، ولهذا يجب أن نصحح للإنسان نيته في القتال للدفاع عن بلده ، بأن ينوي بذلك بأن يقاتل عن هذا البلد لأنه بلد إسلامي فيريد أن يحفظ الإسلام الذي فيه ، وبهذا يكون إذا قتل شهيدا له أجر الشهداء ، وإذا غنم صار سعيدًا وربح ، إما ربح الدنيا وإما ربح الآخرة ، وقد وتقدم الكلام على هذه المسألة . والله الموفق .
* * *
58 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((غزا نبيٌ من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فقال لقومه : لا يتبعني رجل مَلَكَ بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتًا لم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر أولادها . فغزا ، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك ، فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علينا ، فحبست حتى فتح الله عليه ، فجمع الغنائم ، فجاءت ـ يعنى النار ـ لتأكلها فلم تطعمها ، فقال : إن فيكم غُلُولاً ، فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلَزِقَت يد رجل بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فليبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب ، فوضعها فجاءت النار فأكلتها ، فلم تحل الغنائم قبلنا ، ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ))
أخرجه البخاري، ومسلم .
(( الخلفات )) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام : جمع خلفة ، وهي الناقة الحامل .
الشرح هذا الحديث الذي نقله المؤلف فيه آيات عظيمة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدَّث عن نبي من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أنه غزا قومًا أُمر بجهادهم ، لكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ منع كل إنسان عقد على امرأة ولم يدخل بها ، وكل إنسان بنى بيتًا ولم يرفع سقفه ، وكل إنسان اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر أولادها، وذلك لأن هؤلاء يكونون مشغولين بما أهمَّهم ، فالرجل المتزوج مشغول بزوجته التي لم يدخل بها، فهو في شوق إليها، وكذلك الرجل الذي رفع بيتًا ولم يرفع سقفه ، هو أيضًا مشتغل بهذا البيت الذي يريد أن يسكنه هو وأهله، وكذلك صاحب الخلفات والغنم مشغول بها ينتظر أولادها. والجهاد ينبغي أن يكون الإنسان فيه متفرِّغًا ، ليس له هم إلا الجهاد، ولهذا قال الله سبحانه: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ [الشرح:7]، أي : إذا فرغت من شؤون الدنيا بحيث لا تنشغل بها فانصب للعبادة. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان))
أخرجه مسلم.
فدل على أنه ينبغي للإنسان إذا أراد طاعة أن يفرِّغ قلبه وبدنه لها، حتى يأتيها وهو مشتاق إليها، وحتى يؤديها على مهل وطمأنينة وإنشراح صدر. ثم إنه غزا ، فنزل بالقوم بعد صلاة العصر، وقد أقبل الليل ، وخاف إن أظلم الليل أن لا يكون هناك انتصار، فجعل يخاطب الشمس يقول: أنت مأمورة وأنا مأمور. لكن أمر الشمس أمر كوني وأما أمره فأمر شرعي. فهو مأمور بالجهاد والشمس مأمورة أن تسير حيث أمرها الله عز وجل، قال الله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس:38]، منذ خلقها الله عز وجل وهي سائرة حيث أمرت لا تتقدم ولا تتأخر ولا تنزل ولا ترتفع. قال : ((اللهم فاحبسها عنا)) فحبس الله الشمس ولم تغب في وقتها ، حتى غزا هذا النبي وغنم غنائم كثيرة ، ولما غنم الغنائم وكانت الغنائم في الأمم السابقة لا تحل للغزاة ، بل حِلُّ الغنائم من خصائص هذه الأمة ولله الحمد، أما الأمم السابقة فكانوا يجمعون الغنائم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها، فجمعت الغنائم فلم تنزل النار ولم تأكلها ، فقال هذا النبي: فيكم الغلول. ثم أمر من كل قبيلة أن يتقدم واحد يبايعه على أنه لا غلول، فلما بايعوه على أنه لا غلول لزقت يد أحد منهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما لزقت قال: فيكم الغلول- أي: القبيلة هذه- ثم أمر بأن يبايعه كل واحد على حده من هذه القبيلة ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة منهم، فقال: فيكم الغلول: فجاءوا به. والغلول هو السرقة من الغنيمة ،بأن تخفي شيئًا منها، فإذا هم قد أخفوا مثل رأس الثور من الذهب، فلما جيء به ووضع مع الغنائم أكلتها النار- سبحان الله- وهذه من آيات الله عز وجل.
ففي هذا الحديث دليل على فوائد عديدة: منها: أن الجهاد مشروع في الأمم السابقة كما هو مشروع في هذه الأمة، وقد دل على هذا كتاب الله في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ [آل عمران:146]، وكذلك قصة طالوت وجالوت وداود - عليه الصلاة والسلام- في سورة البقرة، الآيات 246ـ252. ومنها أيضًا من الفوائد: دليل على عظمة الله عز وجل، وأنه هو مدبر الكون، وأنه- سبحانه وتعالى- يُجري الأمور على غير طبائعها، إما لتأييد الرسول، وإما لدفع شرٍّ عنه، وإما لمصلحة في الإسلام. المهم أن آيات الأنبياء فيها تأييد لهم بأي وجه كانت. وذلك لأن الشمس حسب طبيعتها التي خلقها الله عليها تجري دائما ولا تقف ولا تتقدم ولا تتأخر إلا بأمر الله، لكن الله هنا أمرها أن تنحبس، فطال وقت ما بين صلاة العصر إلى الغروب، حتى فتح الله على يد النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا رد على أهل الطبيعة الذين يقولون إن الأفلاك لا تتغير! سبحان الله مَن الذي خلق الأفلاك؟ الله عز وجل، فالذي خلقها قادر على تغييرها ، ولكن هم يرون أن هذه الأفلاك تجري بحسب الطبيعة ولا أحد يتصرف فيها والعياذ بالله؛ لأنهم ينكرون الخالق. وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأفلاك تتغيَّر بأمر الله ؛ فهذا النبي دعا الله ووقفت الشمس ، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منه المشركون أن يُريهم آية تدل على صدقهِ فأشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر فانشق شقَّتين وهم يشاهدون ، شقَّةٌ على الصفا وشقَّةٌ على المروة . وفي هذا يقول الله عز وجل:﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر 1، 2] . قالوا : هذا محمد سَحَرنا والقمر لم ينشق ، بل محمد سَحَرنا ، أفسد نظرنا وعيوننا ، لأن الكافر ـ والعياذ بالله ـ الذي حقَّت عليه كلمة الله لا يؤمن ، كما قال الله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ﴾ [يونس: 96، 97] . نسأل الله لنا ولكم العافية ، وأن يهدي قلوبنا . القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء ، ويصرفها كيف يشاء . فالذي حقت عليه كلمة العذاب لا يؤمن أبدًا ولو جئته بكل آية ، ولهذا طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم آية ، وأراهم هذه الآية العجيبة ، التي لا يقدر أحد عليها ، وقالوا: ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ [القمر 2، 3] . وفي هذا الحديث من الفوائد : بيان نعمة الله على هذه الأمة ، حيث أحل لها المغانم التي تنغمها من الكفار ـ وكانت حراما على من سبقنا ـ لأن هذه الغنائم فيها خير كثير على الأمة الإسلامية ، تساعدها على الجهاد وتعينها عليه . فهم يغنمون من الكفار أموالاً يقاتلونهم بها مرة أخرى ، وهذا من فضل الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أُعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي . . . وذكر منها : وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ))
أخرجه البخاري، ومسلم . وفي الحديث أيضًا من آيات الله أن الذين غلوا لزقت أيديهم بأيدي النبي ، وهذا خلاف العادة ، ولكن الله على كل شيء قدير ؛ لأن العادة إذا صافحت اليد يدا أخرى أنها تنطلق ، ولكن الذين غلوا لم تنطلق أيديهم ، أمسكوا بيد النبي ، فهذه علامة ، فالنبي لا يعلم الغيب . ومن فوائد الحديث : أن الأنبياء لا يعلمون الغيب ـ وهو واضح ـ إلا ما أطلعهم الله عليه ، أما هم فلا يعلمون الغيب . وشواهد كثيرة فيما جرى لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، حيث يخفى أشياء كثيرة ، كما قال الله : ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾[التحريم: 3] ، أما هو فلا يعلم الغيب . وأصحابه ـ رضوان الله عنهم ـ يكونون معه يخفون عليه ، فكان معه ذات يوم أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ وكان عليه جنابة ، فانخنسَ ليغتسل ، فقال له عندما رجع من غُسل الجنابة : ((أين كنت يا أبا هريرة ؟))
أخرجه البخاري، ومسلم ،
إذًا فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يعلم الغيب ، ولا أحد من الخلق يعلم الغيب ، كما قال الله عز وجل : ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن 26، 27] . وفي هذا الحديث أيضًا دليل على قدرة الله من جهة أن هذه النار لا يُدرى من أين جاءت ، بل تنزل من السماء ، لا هي من أشجار الأرض ، ولا من حطب الأرض ، بل من السماء يأمرها الله فتنزل فتأكل هذه الغنيمة التي جُمعت . والله الموفق .
* * *
59 ـ عن أبي خالد حكيم بن حزام ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا ، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما ))
أخرجه البخاري، ومسلم .
الشرح ((البيِّعان)) أي : البائع والمشتري ، وأُطلق عليهما اسم البيع من باب التغليب ، كما يقال: القمران : للشمس والقمر ، والعُمَران : لأبي بكر وعمر ، فالبيعان يعني: البائع والمشتري . وقوله : ((بالخيار)) أي : كل منهما يختار ما يريد ما لم يتفرَّقا ، أي : ما داما في مكان العقد لم يتفرقا فإنهما بالخيار . ومثاله: رجل باع على آخر سيارة بعشرة آلاف ، فما داما في مكان العقد ولم يتفرقا فهما بالخيار ، إن شاء البائع فسخ البيع ، وإن شاء المشتري فسخ البيع ، وذلك من نعمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتوسيعه على العباد ، لأن الإنسان إذا كانت السلعة عند غيره صارت غالية في نفسه يحب أن يحصل عليها بكل وسيلة ، فإذا حصلت له فربما تزول رغبته عنها لأنه أدركها، فجعل الشارع له الخيار لأجل أن يتروَّى ويتزوَّد بالتأني والنظر . فما دام الرجلان ـ البائع والمشتري ـ لم يتفرقا فهما بالخيار وإن طال الوقت ، حتى لو بقيا عشر ساعات ، فلو باع عليه السلعة في أول النهار وبقيا مصطحبين إلى الظهر فهما بالخيار ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ((ما لم يتفرقا)) وفي حديث ابن عمر : ((أو يخير أحدهما الآخر )) أخرجه البخاري، ومسلم
أي : أو يقول أحدهما للآخر : الخيار لك وحدك ، فحينئذٍ يكون الخيار له وحده ، والثاني لا خيار له . أو يقولا جميعًا : لا خيار بيننا . فالصور أربع : 1 ـ إما أن يثبت الخيار لهما ، وذلك عند البيع المطلق الذي ليس فيه شرط ، يكون الخيار لهما ـ للبائع والمشتري ـ وكل منهما له الحق أن يفسخ العقد . 2 ـ وإما أن يتبايعا على أن لا يكون الخيار لواحد منهما ، وحينئذٍ يلزم البيع لمجرد العقد ولا خيار لأحد . 3 ـ وإما أن يتبايعا أن الخيار للبائع وحده دون المشتري ، وهنا يكون الخيار للبائع ، والمشتري لا خيار له . 4 ـ وإما أن يتبايعا على أن الخيار للمشتري والبائع لا خيار له ، وحينئذٍ يكون الخيار للمشتري ، وليس للبائع خيار . وذلك لأن الخيار حق للبائع والمشتري فإذا رضينا بإسقاطه أو رضي أحدهما دون الآخر ، فالحق لهما لا يعدوهما ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا)) أخرجه الترمذي، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام : ((ما لم يتفرقا)) لم يبيِّن التَّفرق ، ولكن المراد التفرقُ بالبدن ، يعني ما لم يتفرق أحدهما عن الآخر ، فإن تفرقا بطلَ الخيار ولزم البيع . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((فإن صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما)) وهذا هو الشاهد من الحديث في الباب ؛ لأن الباب بابُ الصدق . قوله : ((فإن صَدَقا وبيَّنا بُوركَ في بيعهما)) . ((إن صدقا)) فيما يصفان السلعة به من الصفات المرغوبة ، ((وبيَّنا)) فيما يصفان به السلعة من الصفات المكروهة . فمثلاً لو باع عليه هذه السيارة وقال: هذه السيارة جديدة صُنعُ عام كذا، ونظيفة وفيها كذا وكذا، ويمدحها بما ليس فيها، نقول: هذا كذب فيما قال: وإذا باعه السيارة وفيها عيب ولم يخبره بالعيب نقول: هذا كتمَ ولم يُبيِّن. والبركة في الصدق والبيان.
فالفرق بين الصدق والبيان أن الصدق فيما يكون مرغوبًا من الصفات، والبيان فيما يكون مكروهًا من الصفات، فكتمان العيب هذا ضد البيان، ووصف السلعة بما ليس فيها هذا ضد الصدق. ومثال آخر : باع عليه شاة ويقول: هذه الشاة لبنها كثير، وفيها كذا وكذا في اللبن، وهو يكذب ، فهذا ضدُّ الصدق؛ لأنه وصفَ السلعة بصفات مطلوبة مرغوبة، أما لو باع عليه الشاة وفيها مرض غير بيِّنٍ لكنه كتمه، نقول: هذا لم يبيِّن. وإذا وصفها بما ليس فيها من الصفات المطلوبة فهذا قد كذب ولم يصدق،
فالبيان إذًا للصفات المكروهة ، والصدق للصفات المطلوبة، إذا وصفها بما ليس فيها من الصفات المطلوبة فهذا قد كذب ولم يصدق، وإذا كتم ما فيها من الصفات المكروهة فهذا كتم ولم يبيِّن. ومن هذا ما يفعله بعض الناس الآن - نسأل الله العافية- يجعل الطَّيِّبَ من المال فوق والرديء أسفل، فهذا لم يُبَيِّن ولم يصدق أيضًا، لم يُبَيِّن لأنه ما بَيَّن التمر المعيب، ولم يصدق لأنه أظهر التمر بمظهر طيب وليس كذلك.
ومن هذا ما يفعله بعض الذين يبيعون السيارات، يبيعونها في المعارض، والبائع يعلم علم اليقين أن فيها عيبًا، لكن يكتمه ويقول للمشتري : أبصر بكل عيب فيها، فيبصر المشتري. لكن لو عيَّن له العيب وحدده له ما اشتراها ، وإنما يلبِّسون على الناس ويقولون لهم: فيها كل عيب ولم أبع إليك إلا الإطارات أو مصابيح الإنارة، وهو يكذب ويدري أن فيها عيبًا لكن لا يخبر المشتري، وهذا حرام على الدلّال(صاحب المعرض) وصاحب السيارة، فعليهما أن يبيِّنا للمشتري ويقولا له: فيها العيب كذا وكذا ويخبرانه في الشراء. أما إذا كان لا يعلم العيب فلا بأس أن يبيعها، ويشترطُ أنه بريء من كل عيب.
* * *
| |
|