أي أن الرسول ذكر الفتن وأن وقتها اقترب، وأن عثمان ساعة هذه الفتنة يكون هو على الهدى.
"وتقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله مضطجعًا في بيته كاشفًا عن ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، فدخل وهو على تلك الحالة فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله وسوَّى ثيابه. قالت عائشة: يا رسول الله، دخل أبو بكر، فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟!
فقال رسول الله : أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ".
ويقول أنس بن مالك : "صعد النبي جبل أحد وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال : اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ".
وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي، "أن رسول الله دخل على ابنته رقية، وهي تغسل رأس عثمان فقال: "يَا بُنَيَّةُ، أَحْسِنِي إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ أَشْبَهُ أَصْحَابِي بِي خُلُقًا".
ما نزل فيه من الآيات
رُوِي عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزُّمر:9]. قال: هو عثمان بن عفان.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76]. قال: هو عثمان.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يريد جعفر بن عبد المطلب والذين خرجوا معه إلى الحبشة". وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى، والهجرة الثانية عثمان بن عفان ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله ، بل كان عثمان أول من هاجر إلى الحبشة بأهله من هذه الأمة.
وفي قوله تعالى عن أهل بيعة الرضوان: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10]. فعن أنس قال: "لما أمر رسول الله ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان بعثه رسول الله إلى أهل مكة، فبايعه الناس فقال: إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ. فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأَرْضِ، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لأَنْفُسِهِمْ".
أقوال الصحابة فيه
شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الرافضية التي ذكرها كثير من المؤرخين؛ فالمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي، وغيرهما من الإخباريين يشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة ويثيرون الفتنة، فقد كثرت الروايات الرافضية التي تتهم الصحابة بالتآمر على عثمان وأنهم هم الذين حركوا الفتنة وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور، وقد حفظت لنا كتب المُحَدِّثين الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه، المتبرئين من قتلته والمطالبين بدمه بعد مقتله، وبذلك يُسْتبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها.
"عن النزال بن سبرة الهلالي قال: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين، فحدثنا عن عثمان بن عفان. فقال: ذاك امرؤ يُدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، كان خَتَن رسول الله على ابنتيه (أي: زوج ابنتيه)، ضمن له بيتًا في الجنة".
وروى الإمام أحمد بسنده عن محمد بن الحنفية قال: "بلغ عليًّا أن عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد، قال: فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال: وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل. قال مرتين أو ثلاثًا".
وروى الحاكم بإسناده عن قيس بن عباد قال: "سمعت عليًّا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قُتِل عثمان، وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة، فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع، وعثمان قتيل على الأرض، لم يدفن بعدُ، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس، فسألوني البيعة فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت، فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين. فكأنما صدع قلبي، وقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى".
وروى الإمام أحمد في مسنده عن محمد بن حاطب قال: سمعت عليًّا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. منهم عثمان.
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
قال في مدح عثمان وذم من ينتقصه: "رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة، وأفضل البررة، هجادًا بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضًا عند كل مكرمة، سباقًا إلى كل منحة، حبيبًا أبيًّا وفيًّا، صاحب جيش العسرة، ختن رسول الله ، فأعقب الله على من يلعنه لعنة الملاعين إلى يوم الدين".
أنس بن مالك
قيل لأنس بن مالك: إن حب علي وعثمان لا يجتمعان في قلب. فقال أنس: كذبوا، لقد اجتمع حبهما في قلوبنا.
أبو هريرة
عن أبي مريم قال: "رأيت أبا هريرة يوم قتل عثمان وله ضفيرتان وهو ممسك بهما، وهو يقول: قتل والله عثمان على غير وجه الحق".
عبد الله بن عمرو بن العاص
أخرج أبو نعيم في معرفة الصحابة بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: عثمان بن عفان ذو النورين قُتل مظلومًا، أوتي كِفْلَيْن من الأجر.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
عن سعد بن عبيدة قال: "جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله. قال: لعل ذاك يسوءك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله، قال: هو ذاك بيته، أوسط بيوت النبي . ثم قال: لعل ذاك يسوءك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد عليَّ جهدك".
وعن أبي حازم قال: "كنت عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكر عثمان، فذكر فضله ومناقبه وقرابته، حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم ذكر علي بن أبي طالب، فذكر فضله وسابقته، وقرابته، حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم قال: من أراد أن يذكر هذين فليذكرهما هكذا، أو فليدع".
وهكذا نرى كم كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يحبون عثمان، ويقدرونه، ويعلمون له فضله وسبقه، وينفون عنه قول كل حاقد وفاسق.
كان عثمان من المجتهدين في العبادة، وقد رُوي من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه .
وكان يفتتح القرآن ليلة الجمعة ويختمه ليلة الخميس، وكان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله.
يقول عبد الرحمن بن عثمان التيمي رحمه الله: قلت: لأغلبن الليلة على المقام، فسبقت إليه، فبينا أنا قائم أصلي إذ وضع رجل يده على ظهري، فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان رحمة الله عليه، وهو خليفة، فتنحيت عنه، فقام فما برح قائمًا، حتى فرغ من القرآن في ركعة لم يزد عليها. فلما انصرف، قلت: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة؟ قال: أجل هي وتري.
ويروي أبو عثمان النهدي رحمه الله أن غلام المغيرة بن شعبة تزوج، فأرسل إلى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين، فلما جاء قال: أما إني صائم، غير أني أحببت أن أجيب الدعوة وأدعو بالبركة.
ويروي هانئ مولى عثمان فيقول: كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟! فقال: "إن رسول الله قال: إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بِعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ. قال: وقال رسول الله : مَا رَأَيْتَ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ".
وقد يتساءل المرء عن سبب بكاء ذي النورين وهو من المبشرين بالجنة، قيل: إنما كان عثمان يبكي وإن كان من جملة المشهود لهم بالجنة، أما الاحتمال أنه لا يلزم من التبشير بالجنة عدم عذاب القبر، بل ولا عدم عذاب النار مطلقًا، مع احتمال أن يكون التبشير مقيدًا بقيد معلوم أو مبهم، ويمكن أن ينسى البشارة حينئذ لشدة الفظاعة، ويمكن أن يكون خوفًا من ضغطة القبر.
وكان يقول : "إني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله. يعني المصحف".
وكان يقول: "حبب إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباع الجوعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن".
وكان يقول أيضًا: "أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة، والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة، والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة، واتخاذ الوصية منه فريضة".
وجاء في إحدى خطبه: "أيها الناس، اتقوا الله فإن تقوى الله غُنْم، وإن أكيس الناس من وال نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورًا لقبره، ويخشى أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرًا، وقد يكفيني الحكم جوامع الكلم والأصم ينادى من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله معه لم يخف شيئًا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده".
يقول الزهري رحمه الله: لو هلك عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت في بعض الزمان لهلك علم الفرائض إلى يوم القيامة، لقد جاء على الناس زمان وما يحسنه غيرهما.
ويقول ابن جرير الطبري رحمه الله: كان من المفتين: عثمان بن عفان، غير أنه لم يكن له أصحاب يعرفون، والمبلغون عن عمر فتياه، ومذاهبه، وأحكامه في الدين بعده كانوا أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه.
وكان عثمان على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها الأنساب والأمثال وأخبار الأيام، وساح في الأرض، فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقوامًا غير العرب، فعرف من أطوارهم وأحوالهم ما ليس يعرفه كل عربي في بلاده، وجدد في رحلاته تجديد الخبرة والعمل معارف البادية عن الأنواء والرياح ومطالع النجوم ومقارنتها في منازل السماء وهي معارف القوافل والأدلاء من أبناء الصحراء العربية، وأبناء كل صحراء... وكان أقرب الصحابة إلى مجرى الحوادث بين المسلمين والمشركين، فكان من سفراء الإسلام في غير موقف من مواقف الخلاف أو الوفاق، تارة بين المسلمين وأعدائهم، وتارة بينهم وبين الأسرى منهم في أرض الأعداء.
وزودته معرفته بالأخبار والأنساب وسياحته في البلاد بزاد حسن، قال عبد الرحمن بن حاطب: ما رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله أتم حديثا ولا أحسن من عثمان بن عفان، إلا أنه كان رجلاً يهاب الحديث.
ولم يكن حديثه لغوًا ولا ثرثرة، بل كان من تلك الأحاديث التي كان يتوق إليها النبي في بعض أوقاته فيتمناها، وتروي السيدة عائشة من ذلك أنها سمعت النبي ذات ليلة يقول: "لَوْ كَانَ مَعَنَا مَنْ يُحَدِّثُنَا؟ قالت: يا رسول الله، أفأبعث إلى أبي بكر؟ سكت. ثم قالت: أفأبعث إلى عمر؟ سكت. ثم دعا وصيفًا بين يديه فسارَّه فذهب، فإذا عثمان يستأذن، فأذن له، فدخل، فناجاه طويلاً".
حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قال يحيى بن يحيى أخبرنا وقال الآخرون حدثنا إسمعيل يعنون ابن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء وسليمان ابني يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه قال محمد ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة
قولها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته ، كاشفا عن فخذيه أو ساقيه ، فاستأذن أبو بكر ، فأذن له ، وهو على تلك الحال إلى آخره ) هذا الحديث مما يحتج به المالكية وغيرهم ممن يقول : ليست الفخذ عورة . ولا حجة فيه ؛ لأنه مشكوك في المكشوف هل هو الساقان أم الفخذان ؟ فلا يلزم منه الجزم بجواز كشف الفخذ .
وفي هذا الحديث جواز تدلل العالم والفاضل بحضرة من يدل عليه من فضلاء أصحابه ، واستحباب ترك ذلك إذا حضر غريب أو صاحب يستحي منه .
قوله : ( دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا : ( تهتش ) بالتاء بعد الهاء ، وفي بعض النسخ الطارئة بحذفها ، وكذا ذكره القاضي ، وعلى هذا فالهاء مفتوحة ، يقال : هش يهش ، كشم يشم . وأما الهش الذي هو خبط الورق من الشجر ، فيقال منه : هش يهش بضمها .
قال الله تعالى : وأهش بها قال أهل اللغة : الهشاشة والبشاشة بمعنى طلاقة الوجه وحسن اللقاء . ومعنى ( لم تباله ) لم تكترث به ، وتحتفل لدخوله .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة ) هكذا هو في الرواية ( أستحي ) بياء واحدة في كل واحدة منهما . قال أهل اللغة : يقال استحيى يستحيي بياءين ، واستحى يستحي بياء واحدة ، لغتان ، الأولى أفصح وأشهر ، وبها جاء القرآن .
وفيه فضيلة ظاهرة لعثمان وجلالته عند الملائكة ، وأن الحياء صفة جميلة من صفات الملائكة .
إن عثمان رضي الله عنه قد جمع الله له من الفضائل والمزايا والخصائص ما أهلته بفضل الله لأن يكون ثالث رجالات هذه في الفضل والمنزلة بعد محمد صلى الله عليه وسلم دون منازع وحسبك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع أصحابه يقولون أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيقرهم ولا ينكره عليهم.
فهيا بنا إلى تعطير أسماعنا بشيء من أخبار هذا الرجل الصالح ومآثره ، إن عثمان أولاً تربط بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أواصر القربى والمصاهرة أما القرابة فيجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الأب في عبد مناف وهو الجد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم وأما من جهة الأم فأمه حفيدة عبد المطلب بنت ابنته
ثم جمع إلى هذه القرابة القريبة من نبي هذه الأمة بأن تفضل الله عليه فكان صهراً للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجه أولاً رقية فلما ماتت بعد بدر زوجه أختها أم كلثوم وقد نص بعض السلف أنه لم يتفق لأحد أن نكح ابنتي نبي غير عثمان رضي الله عنه.
وأما عن إسلامه فقد كان من السابقين الأولين إلى الإسلام أسلم على يد أبي في أول من أسلم فنال شرف الدخول في قول الله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم)
وكان من المهاجرين الأولين هاجر إلى الحبشة مرتين مع امرأته رقية بنت رسول الله بعد أن أذاهم المشركون ثم هاجر إلى المدينة فكان له النصيب الأوفى من قوله تعالى (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) [النحل : 41 ، 42]
ومن فضل الله عليه أن الله كتب له أجر حضور بدر مع كونه لم يشهدها وذلك أنه تخلف عنها لانشغاله بتمريض زوجته رقية وكانت في مرض الموت ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (إن لك أجرَ من شهد بدراً وسهمه). وأهل بدر كلهم في الجنة وأهل بدر اطلع الله عليهم فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
ومن فضل الله عليه أن كتب له فضل بيعة الرضوان مع كونه لم يبايع بنفسه فقد كان في مكة وقتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه يد عثمان يعني يده اليمنى فضرب بها يده الأخرى فكان يد رسول الله لعثمان خيراً من يد عثمان لنفسه. ومن فضل أهل بيعة الرضوان أنه لا يدخل النار أحد منهم فقد أنزل الله عليهم رضاه فقال (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً)
ومن فضائله رضي الله عنه أن الله قد بسط له في الرزق فسخر ماله في خدمة الدين ونصرة ربه ونصرة سيد المرسلين يبتغي ما عند الله فما عند الله خير وأبقى ومن جهاده بالمال انه جهز جيش العسرة بماله وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال من جهز جيش العسرة فله الجنة أخرجه البخاري وفي غير الصحيح أنه جهزه بثلاثمئة بعير وبعشرة آلاف درهم رواه أحمد وغيره.
وكان في المدينة بئر عذبة الماء يقال لها بئر رومة لرجل من اليهود فكان يبيع الماء على الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يشتري بئر رومه ودلوه فيها كدلاء المسلمين وله الجنة فاشتراها عثمان وجعلها للمسلمين.
وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالشهادة فقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم جبل أحد ومعه ابو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان. رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم عثمان في الجنة رواه أبو داود وغيره من حديث سعيد بن زيد.
ومن عظيم سجاياه وجميل أخلاقه أن كان من أشد الناس حياء وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن عثمان حيي ستير تستحي منه الملائكة) أخرجه ابن عساكر وصححه الألباني وفي صحيح مسلم أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُضْطَجِعًا فِى بَيْتِى كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ « أَلاَ أَسْتَحِى مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِى مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ ».
فرضي الله عن عثمان وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء
فإن بعد استشهاد عمر رضي الله عنه اختار المهاجرون والانصار عثمان بن عفان أميرا للمؤمنين ولو كان يتقدمه أحد في قلوبهم لاختاروه فمن طعن في خلافته فقد خالف سبيل المؤمنين.
فسار في الناس سيرة العدل والتقى والصلاح والرحمة والحزم وازدادت الفتوحات الإسلامية في زمنه واتسعت رقعة الخلافة الإسلامية اتساعاً كبيراً وحصل للمسلمين من سعة العيش والرفاهية والامن والمودة فيما بينهم شيء عظيم وفي ذلك يقول الحسن البصري: شهدت منادي عثمان ينادي: يا أيها الناس، اغدوا على كسوتكم فيأخذون الْحُلَل، واغدوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارَّة، وخير كثير، وذات بين حسن، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلا يوده وينصره ويألفه.
ولم ترق هذه العزة الإسلامية والخلافة الراشدة العثمانية لأعداء الإسلام فكادوا ومكروا وشوهوا سمعة عثمان واوغروا صدور الغرباء البعداء عليه فاجتمع عدة الوف منهم في المدينة وحصروا عثمان في داره يطلبون منه التنحي عن منصب الخلافة والرحيل عن سدة الحكم وضيقوا عليه الحصار حتى منعوه من شهود الجماعة ثم منعوا عنه الماء وهو الذي سقى المسلمين بئر رومة
واصر على صالحي رعيته من الصحابة وابنائهم أن يضعوا سيوفهم ويلزموا بيوتهم لا يريد أن يراق دم مسلم بسببه وقد علم أنها الفتنة التي أخبره بها النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر عليها حتى يلحق به عليه الصلاة والسلام.
ثم بلغ بهم الخبث مبلغه فتسوروا عليه الدار وذبحوه فخر شهيداً مضرجا بدمه وهو يقرأ القرأن رحمه الله ورضي عنه.
فكانت تلك أولَ مظاهرة في الإسلام على ولي الأمر وأولَ خروج بالقوة والسلاح وحصل بسبب ذلك من الفرقة والاختلاف ما هو باق إلى يومنا هذا.
مات عثمان شهيداً ضارباً للأمة مثلاً عظيما في الصبر والاحتساب وتعظيم حرمة دماء المسلمين ، وكما أوذي في حياته فإنه اليوم يؤذى في مماته بما يشاع عنه من قالة السوء وأوصاف السوء تصدر عن قلوب خبيثة والسن سفيهة واقلام حاقدة وأفكار فاسدة واي فساد وانتكاس أعظم من أن يذم المرء من يمدحه الله ورسوله. وأن يبغض من يحبه الله ورسوله، وأن يقدح فيمن يزكيه الله ورسوله.
نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب نبيه وحب أصحابه واله وأن يحشرنا في زمرتهم وأن يلحقنا بهم في الصالحين.
معاشر المؤمنين صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين..
[justify]الأحاديث الواردة في فضله
و أخرج الشيخان [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم جمع ثيابه حين دخل عثمان قال : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ؟ ]
و أخرج البخاري [ عن أبي عبد الرحمن السلمي أن عثمان حين حوصر أشرف عليهم فقال : أنشدكم بالله و لا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من جهز جيش العسرة فله الجنة ؟ فجهزتهم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من حفر بئر رومة فله الجنة فصدقوه بما قال ]
و أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال : شهدت النبي صلى الله عليه و سلم و هو يحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان : يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان : يا رسول الله علي مائتا بعير أحلاسها و أقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان : يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقول : [ ما على عثمان ما عمل بعد هذه شيء ]
و أخرج الترمذي [ عن أنس و الحاكم و صححه عن عبد الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه و سلم بألف دينار حين جهز العسرة فنثرها في حجره فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبلها و يقول : ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين ]
و أخرج الترمذي عن أنس قال : لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل مكة فبايع الناس فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن عثمان بن عفان في حاجة الله و حاجة رسوله فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله صلى الله عليه و سلم لعثمان خير من أيديهم لأنفسهم ]
و أخرج الترمذي [ عن ابن عمر قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنة فقال : يقتل فيها هذا مظلوما لعثمان ]