310454
سورة الموت والحياة ( )
عبد الرحمن بن صالح الحجي
رابط الاستماع http://www.alamralawal.com/include/khotbapopup.php?id=156

________________________________________
الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه، والفرار من حدوده وما يغضبه فإنه لا طاقة لكم بعذابه طرفة عين.
ثم اعلموا أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن شر الأمور محدثاتها، وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون، أيها الأخوة في الله: الموت والحياة مخلوقان من مخلوقات الله العظام، بين الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - حكمته من خلقهما فقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك/2].
والموت له صور، فأعظمه موت القلوب، موت الأرواح، ثم موت الأجساد وموت الأرض، والحياة لها صور أعظمها حياة القلوب، حياة الرواح، ثم حياة الأنفس بالبعث بعد الموت، وحياة الأرض بالمطر، ولذلك كان أشرف الملائكة, الملائكة الموكلون بالحياة، فجبرائيل موكل بحياة الأرواح بهذا الوحي الذي ينزل به على الأنبياء فيحيي به الله القلوب، وميكائيل موكل بهذا المطر يحيي به الله الأرض، وإسرافيل موكل بالبعث بعد الموت، بالنفخ في الصور، ولذلك جمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سأل ربه حياة القلوب عندما سأل ربه الهداية فقال: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل...الحديث ".
أيها الأخوة في الله: وها هنا سورة من كتاب الله، ما من سورة في كتاب الله تحدثت عن الحياة بكل صورها والموت بكل صوره، وتعانق فيها الموت والحياة مثل هذه السورة ( سورة يس) التي في وسط القرآن، والتي تُقرأ على المحتضر؛ لأنه بين الموت والحياة، فتُقرأ عليه لينتبه أن ميتة الجسد هي أهون الميتات، وأن الأحياء المنعمين بعدك ولكنهم أموات القلوب مصيبتهم في أنفسهم أعظم من مصيبة من أصيب بنفسه، فتُقرأ على المحتضِر ولها أثر عظيم في طيب نفسه وفي شوقه لملاقاة ربه.
فبدأ الله بأعظم الحياة، حياة الأمم، وحياة هذه الأمة خاصَّة بنزول الوحي وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان الناس أمواتًا لا حياة فيهم، تفوح منهم روائح الشرك والأصنام والبدع والفواحش ووأد البنات والذبح على الأنصاب، يقول – عليه الصلاة والسلام -: " إن الله نظر إلى أهل الأرض " يعني قبل بعثته " فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"، وهؤلاء أكثرهم قد انقرض، تتَّبعهم سلمان - رضي الله عنه - حتى انقرضوا أو أكثرهم، عمت الظلمة، عم الموت هذه الأرض، ثم ببعثته - صلى الله عليه وسلم - ونزول هذا القرآن:
وُلد الهدى فالكائنات ضياءُ
وفم الزمان تبسم وثناءُ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﴿ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)﴾ ، هذه أعظم الحياة، إتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومحبته ومحبة القرآن، النصيحة للرسول وللقرآن وقبل ذلك لله ولأئمة المسلمين وعامتهم، هذه أعظم الحياة.
ثم ذكر الله نوع من الموت الشديد فقال عن أناس جاءهم الحق وليس بينهم وبينه عداوة، ولكنهم هم بدءوا بالعداوة فردوه وحاربوه، فقلوبهم جثث هامدة في صدورهم يحملونها ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)﴾ ، أموات، ما ينفع فيهم، قال الله: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ وإن كانوا يتنفسون ويتحركون، موتى، إذًا من الذي يستحق هذه الرسالة؟ من الذي يُخاطب وينتفع؟ ما هي الأرض الطيبة التي إذا جاءها المطر أنبتت من كل زوج بهيج، قال الله: ﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ المتواضع للحق، الذي يفرح به ﴿ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)﴾ .
ذكر الله الأموات والأحياء بسرعة من ها هنا وها هنا ثم قال الله ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾ نُحْيِ الْمَوْتَى، موتى القلوب نحييهم، وموتى الأجساد نحييهم والله هو الحي الذي لا يموت وهو المحيي - سبحانه وتعالى -، وهو القيوم ﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾.
ثم ذكر الله صورة أخرى لهؤلاء الأموات ﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ ولكن الميت لا ينفع فيه ﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ ماذا تريدون؟ ملائكة؟ ﴿ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)﴾، قال الأحياء لهم: ﴿ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)﴾ قال هؤلاء الأموات: ﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ﴾ ما جاءنا الفقر والمصائب إلا لما جاءنا أهل الحق هؤلاء ﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)﴾ ، هي العداوة بين الأحياء والأموات دائمًا ﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ﴾ تقولون هذا الكلام؟ ﴿ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)﴾.
ولكن في هذه المدينة الميتة رجل حي، رجل كامل الرجولة، قال الله: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ من كمال حياته أنه يسعى لا يمشي مشيًا، من حرصه من توقد الإيمان في قلبه ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾، جمعوا الشرطين: ﴿ لَا يَسْأَلُونكُمْ أَجْرًا ﴾ يريدون وجه الله وهذه لا تكفي، والثانية: ﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)﴾ ، يأمرونكم بالحق بالفطرة فقتلوه، أماتوه، فأحياه الله من جديد، بسرعة قيل ادخل الجنة، موت وحياة موت وحياة، ﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)﴾.
هل قومه يحتاجون في إماتتهم إلى أشياء كثيرة؟ لا
﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)﴾ ، ولكنهم سيرجعون، بعد الموت حياة ﴿ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)﴾
ها هنا صورة أخرى تبين إلى حياة القلوب وموتها ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)﴾، أليست عبرة على القلب الميت فيحييه الله؟ أليست عبرة على القبور الميتة فيبعث الله من فيها؟ ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام/122].
كَذَلِكَ الظلمة دليل الموت، النوم يكون في الليل والنوم يكون الموتة الصغرى، والنور دليل الحياة. قال الله: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ﴾ [يس/38] على ما في الحياة والموت في كل شيء.
كذلك ركوب البحر هو التأرجح بين الموت والحياة، ولذلك كان أهل الشرك إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم مشركون، ولذلك كره بعض الصحابة والسلف ركوب البحر إلا للحج والغازي لأنه تغرير بالناس،﴿ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)﴾ ...الآيات.
ثم ذكر الله بعض حجج الأموات السخيفة الباردة﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ﴾ ما هذه العقول؟ لو شاء الله أطعمهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، المال ماله ليس مالك والعباد عباده، كيف تفكرون؟ يا سبحان الله.
ثم قال الله:﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)﴾ متى نموت؟ ﴿ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)﴾ ولكنها ليست النهاية ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ﴾ بعد هذا الموت حياة ﴿ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)﴾ وإذا قُرأت على المحتضر علم أن هذا الموت ليس النهاية ولكنه البداية ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ إذا نُفخ في الصور صعق من في السماوات ومن في الأرض كلهم، ثم إذا نُفخ فيه أخرى إذا هم قيام ينظرون، وبين النفختين أربعين ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ﴾ لن يقول أحد يوم القيامة أني مظلوم، الكافر والمسلم على السواء، لن يقول أحد أني مظلوم ﴿ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)﴾ .
ثم دل الله أحياء القلوب على الشوق للحياة الحقيقية، ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت/64]، الحياة الكاملة لا ينغصها مرض ولا فقر ولا هرم ولا فراق ولا موت ولا شيء، ما ينغصها شيء.
﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)﴾ تمام الحياة فيهم، لا يهرمون، ولا يبأسون ولا يمرضون ولا شيء، ﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)﴾
يا أحياء القلوب: اجعلوا هذه الحياة بين أعينكم، هي والله الحياة، أما هذه الحياة الدنيا فإنما هي لهو ولعب.
ثم قال الله: ﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)﴾ يا أموات القلوب تميزوا عن أحياء القلوب.
﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)﴾
ثم بين الله أن هذه هي اليد تنطق وإن كنتم تروها اليوم لا تنطق، يبعث الله فيها الحياة ويعطيها القدرة على النطق، والرِجل تنطق وكل الشهود عليك كُثر، ليس هناك قلة في الشهود ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)﴾.
ثم قال الله: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ﴾ الشعر والإكثار منه دليل على موت القلب، الإكثار منه، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا وصديدًا حتى يرِيَهُ خير له من أن يمتلئ شعر "؛ لأنه يصرف القلب عن كتاب الله، الشعر العادي والشعر الملحن والشعر المُنشَّد والشعر المغنى، كله يصرف عن القرآن، إلا ما كان بقدر، إلا من كان من باب التحميض، إلا ما كان في سفر، إلا ما كان من باب الحكمة فقط ولا يكثر منه حتى لا يصده عن القرآن) ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾ إذاً الحياة أين؟ ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)﴾ هنا حياة القلوب، الذكر والقرآن، القرآن ينفع من؟ قال: ﴿ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ ما ينتفع بالقرآن إلا الحي، حي القلب، حي النفس، حي الهمة، حي الإرادة، هذا الذي يستحق القرآن وينتفع به ﴿ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)﴾.
ثم في آخر المثلين: ضرب الله لنا مثلًا بأحياء معنا ولكن الله سخرهم لنا، ولولا تسخيرهم لنا ما استطعناهم، هذه الجِمال وهذه الحيوانات، أحياء ولكنهم ذُللوا لنا،﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾ الآيات.
ثم قال الله: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)﴾، ما هذه الآلهة؟ ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النحل/21]، ما ينفعون أنفسهم حتى ينفعونهم.
وفي آخر مثل ضرب الله لهذا الإنسان المسكين النطفة إذا اغتر بعلمه وراى عطفيه، أخذ يحتج على ربه، أخذ عظمة من هذه العظام النخرة فقال لربه: ﴿ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ ؟ ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ يا نطفة يا نطفة: تدبر في نفسك، لم تكن شيئًا مذكورا ثم كنت نطفة الآن تحتج على ربك؟، أوليس الذي خلقه أول مرة قادر أن يحييه مرات ومرات؟ أليس الإعادة عندكم أهون من البدء؟ مالكم لا تعقلون.
﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ هذا النطفة أصبح خصيمًا لله، خصيم مبين ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾ الخُضرة علامة الحياة، والنار علامة الموت، فكيف إذا أُخرجت النار من الشجر الأخضر؟، أليس هذا دلالة على قدرة الله؟ كيف إذا كنت تورون النار من شجر أخضر؟ يا سبحان الله، ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس/83].
آخر كلمة في هذه السورة تذكرك بالحياة،﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ .
إخوتي في الله: أعظم العبر في هذه السورة أن الموت الذي يخافه الناس ويعدونه مصيبة وهو مصيبة كما قال الله: ﴿ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ [المائدة/106] أن المصيبة بموت القلوب أعظم وأشد وأطم والفتنة أشد من القتل، الفتنة هي موت القلب، هي الشرك، هي البدعة، أشد من القتل وأشد من الموت.
فيا عباد الله: فروا من موت القلوب، احرصوا على حياة القلوب.
أين تُبتغى حياة القلوب؟
تُبتغى أولًا في أكل الحلال، أكل الحلال، الورع من الحرام، الورع من الشبهات، ما أحيا القلب مثل هذا، ولذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الحلال بين وان الحرام بين....الحديث "ختمه بقوله: " وإن بالجسد مضغة " يعني أن من أعظم صلاح هذه المضغة أكل الحلال البين وترك الحرام وترك الشبهة.
ومما يحيي القلب يا عباد الله هذا القرآن، فإنه روح، إذا جاء في القلب بث فيه الروح؛ قال الله: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى/52]
ومن ذلك قيام الليل والتضرع لله بالأسحار فإنه يحيي القلب.
ومن ذلك ملازمة ذكر الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم فإنه يحيي القلب، والمنافق لا يستطيع أن يذكر الله إلا قليلا؛ لأنه منافق، وهذه الفارقة بين المؤمن والمنافق.
ومن ذلك ملازمة الصالحين أهل السنة نظاف القلوب الأحياء الذين ليس في قلوبهم غل على النصوص ولا على الشرع ولا على أئمة المسلمين وعامتهم لازمهم وانتفع بهم فإن القلب يحيا.
ومن ذلك ملازمة العلماء وسماع كلامهم وسماع السنة والآثار والوحي، احرص على حياة قلبك، أن تموت هذا ليس بشيء وإن كان مصيبة؛ لأن ما بعده أعظم منه، ولكن أن يموت قلبك وهو بين جنبيك فتحمله وهو جثة هامدة، حجة عليك، هذه والله هي المصيبة.
اللهم يا حي الحياة بيدك أحيي قلوبنا يا رب العالمين وأحيي أرواحنا الحياة التامة، وأحيي هممنا وأحيي إراداتنا يا رب العالمين، اللهم اجعل همنا وإرادتنا وشوقنا وعملنا للدار الآخرة فإنها هي الحيوان يا رب العالمين، اللهم من لم تحيه فليس بحي أبدًا، اللهم ومن أحييته فهو الحي، اللهم أحينا يا رب العالمين، واجعل لنا نورًا نمشي به، وارزقنا التدبر بكلامك، اللهم إن كلامك هذا هو الحياة الذي يسري في القلب فيحييه، ويسري في الأمم فيحييها، اللهم اجعله ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا والرابط على قلوبنا يا رب العالمين، اللهم لا خير إلا من قبلك ولا معونة إلا من عندك، أنت حسبنا ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل في حياة قلوبنا، حسبنا ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل فيما نؤمنه من ربنا، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.
435347 435347
522794