310454
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادِي له.
وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه والفرار من حدوده فإن هذا جماع الأمر كله وسعادة الدنيا والآخرة ولذلك خلقكم.
أيها الناس: اتقوا الله وراقبوه واخشوه ولا تغفلوا عن ذكره ولا عن ما خلقكم لأجله فإنكم بين مخافتين بين أجل قد بقي ما تدرون ما الله قاض فيه، وبين عمل قد مضى ما تدرون ما الله صانع فيه فالله الله، فالكيس من دان نفسه أي حاسبها وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
واعلموا: أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أخوتي في الله: إن الفقه الأكبر والفقه العظيم الذي رزقه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان هو معرفة حقائق الأمور وأن تزول الغشاوة عن البصائر والأبصار وأن تنسب الأمور للفاعل الحقيقي لها، وألا يقف العبد عند الظواهر والأسباب، من فُتح له في هذا الباب فقد فُتح له الخير كله.
أيها الأخوة في الله: إننا دائما نقول إن الله على كل شيء قدير، وإن الله الذي يفعل كل شيء، وكل شيء بإرادته وكل شيء بتقديره وما هذه إلا أسباب ولكن إذا أتينا إلى التطبيق وجدنا أنا نركن إلى الأسباب كثيرا ونعتقد أنها الفاعلة بلسان الحال.
إن عباد الله الصالحين هم الذين عرفوا الأمور على وجهها، هم الذين عرفوا أن كل شيء في هذا الكون إنما هو بإرادة خالقه - سبحانه وتعالى -، هو الفاعل وهو المريد وهو المقدر - سبحانه وتعالى -، والقلوب بين أصبعين من أصابعه وهو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وينصر ويخذل، كل شيء بيده - سبحانه وتعالى -، إذا وصل العبد إلى هذا اليقين أفلح وارتاح وانشرح صدره ورضي عن الله، وعرف أن الأسباب إنما هي أسباب وأن الذي يخلق الإرادات في القلوب ويخلق العزائم في القلوب والهمم وينقضها ويفعل كل شيء إنما هو الله - سبحانه وتعالى -، فيركن إليه وينطرح بين يديه ويقطع العلائق من الخلق والركون إليهم عند ذلك يفلح، عند ذلك يفلح، إذا عود نفسه على ذلك، أما الخلق لو اجتمعوا كلهم على أن ينفعوك والله لن ينفعوك بمثقال ذرة إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإنما هم أسباب، ولو اجتمعوا كلهم على أن يضروك والله لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك وإنما هم أسباب، فإذًا إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وتوكل على الله وتعلق به واقطع علائقك من الخلق.
انظر إلى سادات عباد الله هذا الخليل الأكبر إبراهيم - عليه السلام - ماذا يقول؟ هذا الكلام الذي خرج من قلبه وطبقه بعمله، قال: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)﴾ والاستغناء منقطع لكن رب العالمين هو الذي أتوكل عليه وأتوجه إليه ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(83)وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء/89] أرأيتم أعظم من هذا التوحيد؟ من إمام التوحيد إمام الموحدين، إمام الملة - عليه السلام -، لم يرى للخلق شيئا وإنما الله هو الذي يفعل كل ذلك؟، هو الذي يطعم ويسقي ويمرض ويشفي ويهدي ويضل ويخلق ويميت ويحيي كل شيء في يده، هكذا كانوا.
ولذا روي في بعض الآثار أنهم لما رموه من المنجنيق وأقبل على تلك النار العظيمة ليحرقوه تعرض له جبريل فقال يا إبراهيم هل لك حاجة؟ هل لك حاجة؟ قال: ((أما إليك فلا))، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، قطعوا علائقهم من الخلائق كلها حتى جبرائيل، قال: ((أما إليك فلا))، أما إلي الله فهو يعلم بحالي، قال ابن عباس: ((حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لك فاخشوهم)) ماذا يخشون؟ يخشون الخلق وقلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن؟ هذه سفاهة، قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن يخلق فيها الإرادات وينقض فيها العزائم ويصرفهم كما يريد، ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران/173] ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ ومن تخويفه وإرهابه تعظيم الأسباب، وأنها هي الفاعلة ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران/175].
وهذا الخليل الثاني - صلى الله عليه وسلم -، رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - جاءته عائشة في المنام قبل أن ينكحها في سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وقيل له: ((هذه زوجتك)) ورؤيا الأنبياء حق فلما استيقظ من منامه ماذا قال؟ ((إن يكن من عند الله يمضه)) أراد الخلق أم لم يريدوا، إن يكن هذا الزواج من عند الله يمضه وإلا يكن من عند الله فلم يحصل، إن يكن هذا الرزق من عند الله يمضه وإن حاول الخلق منعه فلم يستطيعوا، إن تكن هذه الوظيفة من عند الله يمضها ولو حاول الناس كلهم، وإن لم تكن من عند الله فلو أتيت بشفاعات الملوك والسلاطين ما نفعوك حتى يكتبها الله لك، اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
قيل للصديق - رضي الله عنه - في مرض موته: أنأتيك بالطبيب؟ قال: ((الطبيب أمرضني)) يعني الله - عز وجل -، ((وهو الذي يشفيني))، قيل ما تشتهي: قال: ((رحمة ربي)).
كانوا هؤلاء السادات من أنبياء الله ورسله وصفوة عباده قد زاد إيمانهم حتى عرفوا أن الخلق خلق، وأن الخالق هو الخالق، خلق العباد وما يعملون، ينشأ الإرادات والهمم وما يعلم جنود ربك إلا هو - سبحانه وتعالى -، فتوجهوا إليه في دنياهم في أخراهم.
حتى التوبة، من أراد أن يتوب متى يتوب؟ إذا خلق الله في قلبه التوبة ثم أعانه على التوبة ثم يقبلها منه، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾ [التوبة:118] فلما تابوا تاب عليهم، كل شيء منه، تاب عليهم أولا فقذف إرادة التوبة في قلوبهم ليتوبوا فلما تابوا:﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة/119] كل شيء منه وإليه.
أرأيت الخير الذي تعمله يا عبد الله من الذي خلق في قلبك إرادة هذا الخير؟ وهو ما نسميه بالتوفيق؟ أليس الله قذفها في قلبك، الصدقة، الصلاة، قيام الليل، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الجهاد، أي شيء من الذي قذفه في قلبك؟ الله، ثم لما قذف في قلبك من الذي قذف في قلبك العزيمة والمعونة؟ الله، فلما عملته من الذي يقبله منك ويضاعفه لك؟ الله، فأول الأمر وأوسطه وآخره له - سبحانه وتعالى -.
الخير محض فضل والشر إنما هو معونة الشيطان لك ونفسك الأمارة بالسوء وسوء الأدب مع الله، فاستغفر وتب إلى الله ولا ترى لنفسك شيئا، إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [الأعراف/43].
فيا عباد الله: يا إخوتي في الله: كل شيء في كون الله لا يكون إلا بإرادته لا يحصل في كونه ما لا يريد البتة لأنه لا غالب له، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا، كل شيء في كونه بإرادته، ولكن الأفعال بعضها يرضاها وبعضها لا يرضاها وكلها لحكمة خلقها لحكمة وهو الحكيم الخبير - سبحانه وتعالى -، ما النتيجة من ذلك؟ ارض عن الله تكن رضيا استغن بالله تكن غنيا، توكل على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
انظر إلى البشر أنهم بشر، وأن الذي يخلق الأشياء في قلوبهم هو الله، وأنهم أسباب، فابذل السبب وأجمل في الطلب وتوكل على الرب - سبحانه وتعالى -، توكل على الله وأجمل في الطلب، قل: ((حسبنا الله ونعم الوكيل))، هو الذي يسخر العباد لك، هو الذي يسهل المواعيد لك، هو الذي يفتح لك الأشياء وأنت لا تدري، والله لو كُشف لنا الغيب عن كيف تتم الأمور لرأينا أمرا عجيبا، كيف يقذف في قلبك أن تذهب الآن إلى هذا الموعد؟ وأن تقابل هذا الرجل وكيف تسير الأمور حتى يحصل الشيء؟ كلها من عند الله ولكن الجهال الذين يقفون عند الأسباب عند الشفاعات عند الأشياء ولا ينظرون لما خلفها وهو الفقه العظيم، وهكذا كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك اركن إلى الله، الخلق إن رغبت فيما عندهم أبغضوك، وإن زهدت فيما عندهم أحبوك، وإن سألتهم شنئوك، وإن ألححت عليهم تقذروك، وربما وضعوا الحجات وربما وضعوا الأسباب.
وأما الله - سبحانه وتعالى - فأما أحب عباده إليه من يلح علي وأحب عباده إليه من يكثر سؤاله وطلبه والانطراح بين يديه، أحب عباده من يسأله آناء الليل وآناء النهار، العباد قد يعطونك مرة ومرتين ولكنهم لا يستمرون، والله يده سحاء الليل والنهار لا تغيض - سبحانه وتعالى -، يحب عباده الملحين السائلين، فيا أخوتاه من يرضى بالذل بعد هذا العز، من يرضى بتتبع الخلق والخالق فتح له خزائن كل شيء، كل شيء خزائنه بيد الله.
قال بعض السلاطين لبعض السلف: ((سلني حاجتك، قال: من أمر الدنيا أم الآخرة؟ قال الآخرة لا أستطيعها، قال: والدنيا ليست في يدك، أسأل الدنيا ممن يعطيك ويعطيني)) وأختصر الطريق، رضوا بالله فرضي الله عنهم، فالله الله فإن هذا هو الفقه الأعظم، من فُتح له فُتح له الخير كله.
اللهم اجعلنا ممن رضي عنك، واستغنى بك عن خلقك وركن إليك وعرف أن كل شيء في يدك وأيقن بذلك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن يبذل السبب ويجمل في الطلب ويتوكل عليك ويفوض الأمور إليك ولا يرى إلا صنعك وفعلك يا رب العالمين يا حي يا قيوم.
اللهم إنه لا يعلم جنودك إلا أنت، اللهم فاقذف في قلوبنا من جنود الخير وجنود الهداية وجنود التقى والعفاف والغنى يا رب العالمين يا مولانا، اللهم إن هذا الخير وهذا الكلام إنه منك وكل شيء منك ليس منا شيء، إن وفقتنا فبفضلك وإن خُذلنا فبذنوبنا، لا إله إلا أنت.
اللهم لا خير إلا عن طريقك، ولا شر إلا من قبل أنفسنا، الخير كله بيديك والشر ليس إليه تباركت ربنا وتعاليت: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
435347 435347
607414