بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إخـواني في الله: هذه وقفة مع حديثٍ عظيم جليل القدر عليِّ المكانة ؛ حديثٍ قدسي يرويه النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه عن ربه تبارك وتعالى ، جديرٌ بنا أجمعين أن نتأمل في معانيه العظيمة ودلالاته المباركة وهداياته القويمة ، راجين من ربنا جل في علاه أن ينفعنا به وبكلامه سبحانه وأحاديث رسوله المصطفى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
روى الإمام مسلم عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنَّه قال: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلَا تَظَالَمُوا ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ،مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ)) .
كان أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى وهو الذي يروي هذا الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه إذا حدَّث بهذا الحديث جثى على ركبتيه تعظيمًا لهذا الحديث ، وذلك لجلالة شأنه وعظيم معانيه وجزالة دلالاته ؛ فجديرٌ بنا إخــواني أن نتأمل في هذا الحديث العظيم ، وهو حديثٌ قدسي مشتمل على عشر نداءاتٍ إلهيةٍ قدسية فيها بيان كمال غنى الله وكمال عدله وكمال ملكه ، وفيها بيان عظيم فقر العباد إلى الله وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين .
وفي أول هذا الحديث بيان كمال عدل الله عز وجل ، وأنه لا يظلم الناس شيئا ، وأنه جلَّ وعلا حرَّم الظلم على نفسه وهو القدير على كل شيء ، حرَّمه على نفسه لكمال عدله جل وعلا ، وجعله بين العباد محرما ؛ فلا يحل لعبدٍ أن يظلم نفسه بالذنوب والعصيان ولا أن يظلم غيره بالأذى والعدوان .
ثم بُيِّن في هذا الحديث عظيم فقر العباد إلى الله وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين في جميع شؤونهم ومصالحهم الدينية والدنيوية ؛ الدينية من هداية وصلاح واستقامة ، والدنيوية من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ومسكن وغير ذلك. وأن الواجب على العبد أن يقبِل على الله بالدعاء والسؤال إقبال الفقير الذليل المحتاج متوجهًا إلى الرب الغني العظيم الذي بيده أزمَّة الأمور وملكوت السماوات والأرض ، فيسأل ربه جميع حاجاته وجميع مصالحه في دنياه وأخراه وفي معاشه ومعاده .
وتضمن هذا الحديث أن العبد مهما اجتهد في الاستقامة والصلاح لابد من أن يقع في شيء من الذنوب والأخطاء فعليه أن يتذكر في كل أوقاته وجميع أحايينه أنَّ الله سبحانه يغفر الذنوب مهما عظمت ويتجاوز عن السيئات مهما كثرت ، لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره ، ولا حاجةٌ يُسألها أن يعطيها جل في علاه .
إخـواني في الله : وتضمن هذا الحديث كمال غنى الله عن العباد وكمال قدرته وعظمته ، وأن العباد لا يبلغون ضُرَّ الله فيضروه ولا نفعه سبحانه فينفعوه ، كيف وهو الغني العظيم العزيز الحميد جلَّ في علاه .
وتضمن الحديث  كمال ملك الله جل وعلا فهو عز وجل غنيٌ عن العباد وعن طاعاتهم وعباداتهم؛ فإن طاعات العباد مهما كثُرت وعظُمت لا تزيد ملْك الله شيئا ، ومعاصي العباد مهما كثُرت وعظُمت لا تَنقُص من ملكه جل وعلا شيئا . ثم إنَّ العباد من أولهم إلى آخرهم إنسهم وجنِّهم لو قاموا أجمعين في صعيدٍ واحد وفي وقتٍ واحد وتوجَّهوا إلى الله جل وعلا بالدعاء لسمعهم أجمعين دون أن يختلط عليه صوتٌ بصوت أو لغةٌ بلغة أو حاجةٌ بحاجة ، ولو أعطى الجميع كلَّ ما يطلبون ما نقص ذلك من ملكه جل وعلا شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر ، وماذا ينقصُ مخيطٌ أدخل في بحر ؟!! .
ثم جاء في تمام هذا الحديث بيان حقيقة هذه الدنيا وأنها دارٌ للعمل وليست دارًا للبقاء ، وأن أعمال العباد في هذه الحياة محصاةٌ عليهم ؛ صغيرها وكبيرها ، دقيقها وجليلها ، حسَنها وسيئها ، وأن العباد سيلقون أعمالهم يوم القيامة في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وحين ذاك من وجد خيرًا فليحمد الله ؛ فإنه الذي هداه ووفقه وأعانه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.