منتدى جماعة أنصار السنة ببورسعيد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى إسلامي على مذهب أهل السنة والجماعة
 
الرئيسيةصفحه1أحدث الصورالتسجيلدخول
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
Flag Counter
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
» مطوية (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالثلاثاء أبريل 27, 2021 4:52 pm من طرف عزمي ابراهيم عزيز

» مطوية (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالخميس يونيو 25, 2020 9:17 am من طرف عزمي ابراهيم عزيز

» مطوية (ذَلِكَ رَبُّ العالمين)
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالثلاثاء يونيو 23, 2020 12:47 pm من طرف عزمي ابراهيم عزيز

» مطوية (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالثلاثاء يونيو 23, 2020 8:24 am من طرف عزمي ابراهيم عزيز

»  كتاب . * غاية المريد في علم التجويد * المؤلف / عطية قابل نصر .
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالأحد مايو 07, 2017 10:16 pm من طرف إبراهيم باشا

» ** كن متفائلًا **
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالسبت مايو 06, 2017 9:06 pm من طرف إبراهيم باشا

» * ما تعريف التوحيد ؟ وما أنواعه ؟ * لفضيلة الشيخ / ابن عثيمين .
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالثلاثاء مايو 02, 2017 9:47 pm من طرف إبراهيم باشا

» * ماذا تفعل المرأة إذا طهرت بعد الفجر مباشرة ، هل تمسك وتصوم هذا اليوم ؟ * لفضيلة الشيخ / ابن عثيمين .
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالأحد أبريل 23, 2017 10:28 pm من طرف إبراهيم باشا

» نحو خطوات فاعلة للداعية المسلمة .
 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالسبت أبريل 22, 2017 9:58 pm من طرف إبراهيم باشا


 

  شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر ( جـزء 2 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
إبراهيم باشا
Admin
إبراهيم باشا


عدد المساهمات : 703
تاريخ التسجيل : 23/02/2013
الموقع : http://www.ansarsonna.com

 شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Empty
مُساهمةموضوع: شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر ( جـزء 2 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين    شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 2 )  شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين Emptyالأحد يناير 11, 2015 8:56 pm




شرح أحاديث رياض الصالحين
باب الصَّـبْــر ( جـزء 2 )

شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين




تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ / إبراهيم باشا

26- وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدرى رضي الله عنهما : أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نَفِدَ ما عنده ، فقال لهم حين نفد كل شيء أنفق بيديه: ((ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله. وما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر))
أخرجه البخاري ، ومسلم .

الشرح :
كان من خُلق الرسول الكريم- عليه الصلاة والسلام- أنه لا يُسأل شيئًا يجده إلا أعطاه ،
وما عهد عنه أنه صلى الله عليه وسلم منع سائلاً، بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعيش في بيته عيش الفقراء، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع ، فهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس وأشجع الناس.
فلما نفد ما في يده أخبرهم أنه ما من خير يكون عنده فلن يدخره عنهم ، أي: لا يمكن أن يدَّخر شيئًا عنهم فيمنعهم، ولكن ليس عنده شيء.
ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاستعفاف والاستغناء والصبر، فقال: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله- عز وجل)).
هذه ثلاثة أمور:
أولاً: من يستغن يغنه الله، أي: من يستغن بما عند الله عما في أيدي الناس يغنه الله عز وجل، وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم ، فإنه سيبقى قلبه فقيرًا - والعياذ بالله- ولا يستغني .
والغِنى غنى القلب، فإذا استغنى الإنسان بما عند الله عما في أيدي الناس ، أغناه الله عن الناس، وجعله عزيز النفس بعيدًا عن السؤال.
ثانيًا: من يستعفف يعفه الله، فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء يعفه الله عز وجل.
والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة فإنه يهلك والعياذ بالله؛ لأنه إذا أتبع نفسه هواها وصار يتتبع النساء ، فإنه يهلك، تزني العين، تزني الأذن، تزني اليد، تزني الرِّجل ثم يزني الفرج؛ وهو الفاحشة والعياذ بالله.
فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم أعفَّه الله- عز وجل- وحماه وحمى أهله أيضًا.
ثالثًا: من يتصبَّر يصبره الله، أي يعطيه الله الصبر ، فإذا تصبرت، وحبست نفسك عما حرم الله عليك، وصبرت على ما عندك من الحاجة والفقر ولم تلح على الناس بالسؤال فإن الله- تعالى- يصبرك ويُعينُك على الصبر.
وهذا هو الشاهد من الحديث؛ لأنه في باب الصبر.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ((وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر))
أي: ما مَنَّ الله على أحد بعطاء من رزق، أو غيره؛ خيرًا وأوسع من الصبر؛ لأن الإنسان إذا كان صبورًا تحمَّل كل شيء ،
إن أصابته الضراء صبر، وإن عرض له الشيطان بفعل المحرم صبر، وإن خذله الشيطان عن ما أمر الله صبر.
فإذا كان الإنسان قد مَنَّ الله عليه بالصبر؛ فهذا خير ما يعطاه الإنسان ، وأوسع ما يعطاه،
ولذلك تجد الإنسان الصبور لو أوذي من قبل الناس، لو سمع منهم ما يكره، لو حصل منهم اعتداء عليه، تجده هاديء البال، لا يتصلب ، ولا يغضب ؛ لأنه صابر على ما ابتلاه الله به ، فلذلك تجد قلبه دائمًا مطمئنًا ونفسه مستريحة ،
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((ما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر))
والله الموفق.
* * *

27- وعن أبي يحيي صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له))
أخرجه مسلم

الشرح :
قال المؤلف- رحمه الله- فيما نقله عن صهيب الرومي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمْرَهُ كلَّه له خير))، أي: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أظهر العجب على وجه الاستحسان ((لأمر المؤمن)) أي: لشأنه ، فإن شأنه كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
ثم فصَّل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر الخير، فقال: ((إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له)) هذه حال المؤمن ، وكل إنسان ، فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين: إما سرَّاء ، وإما ضرَّاء ،
والناس في هذه الإصابة - السراء أو الضراء - ينقسمون إلى قسمين: مؤمن ، وغير مؤمن،
فالمؤمن على كل حال ما قدر الله له فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله ، فكان ذلك خيرًا له، فنال بهذا أجر الصائمين.
وإن أصابته سراء من نعمة دينية ، كالعلم والعمل الصالح ، ونعمة دنيوية ، كالمال والبنين والأهل شكر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله ؛
لأن الشكر ليس مجرد قول الإنسان: أشكُرُ الله ، بل هو قيام بطاعة الله - عز وجل ، فيشكر اللهَ فيكون خيرًا له ، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين ، ونعمة الدنيا ، نعمة الدنيا بالسراء، ونعمة الدين بالشكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أصيب بسراء، أو أصيب بضراء.
وأما الكافر فهو على شر- والعياذ بالله- إن أصابته الضراء لم يصبر، بل تضجَّر، ودعا بالويل والثُّبور، وسب الدهر، وسب الزمن، بل وسب الله- عز وجل- ونعوذ بالله ،
وإن أصابته سراء لم يشكر الله، فكانت هذه السراء عقابًا عليه في الآخرة ؛ لأن الكافر لا يأكله أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم،
وإن كان ليس فيها إثم بالنسبة للمؤمن، لكن على الكافر إثم، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [(الأعراف: 32)] ، هي للذين آمنوا خاصَّة، وهي خالصة لهم يوم القيامة،
أما الذين لا يؤمنون فليست لهم، ويأكلونها حرامًا عليهم، ويُعاقبون عليها يوم القيامة.
فالكافر شر، سواء أصابته الضراء أم السراء،
بخلاف المؤمن فإنه على خير.
وفي هذا الحديث: الحث على الإيمان ، وأن المؤمن دائمًا في خير ونعمة .
وفيه أيضًا: الحث على الصبر على الضراء، وأن ذلك من خصال المؤمنين ،
فإذا رأيت نفسك عند إصابة الضراء صابرًا محتسبًا، تنتظر الفرج من الله - سبحانه وتعالى- وتحتسب الأجر على الله ، فذلك عنوان الإيمان، وإن رأيت العكس فلُمْ نفسك، وعدِّل مسيرك، وتُبْ إلى الله.
وفي الحديث أيضًا: الحث على الشكر عند السراء ؛ لأنه إذا شكر الإنسان ربه على نعمة ، فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]،
وإذا وفَّق الله الإنسان للشكر؛ فهذه نعمة تحتاج إلى شكرها مرة ثالثة … وهكذا ؛ لأن الشكر قلَّ من يقوم به، فإذا منَّ الله عليك وأعانك عليه فهذه نعمة، ولهذا قال بعضهم:
إذا كان شُكري نعمةَ الله نعمة عليَّ له في مثلها يَجِبُ الشُّـكرُ، فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفضله وإن طالت الأيامُ واتَّصَلَ العمرُ ،
وصدق - رحمه الله- فإن الله إذا وفقك للشكر فهذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد،
فإن شكرت فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثانٍ، فإن شكرت فهي نعمة تحتاج إلي شكر ثالث. وهلم جرًّا، ولكننا- في الحقيقة- في غفلة عن هذا .
نسأل الله أن يُوقظ قلوبنا وقلوبكم، ويصلح أعمالنا وأعمالكم ، إنه جواد كريم.
* * *

28- وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثَقُل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشَّاه،
فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كَرْبَ أباه.
فقال: ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)).
فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه مَن جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، فلما دُفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحْثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟
أخرجه البخاري .

الشرح :
قال المؤلف- رحمه الله تعالى- فيما رواه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- : أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ((جعل يتغشاه الكرب)) أي: من شدة ما يصيبه جعل يُغشى عليه من الكرب ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يُشدَّد عليه الوعك والمرض،
كان يوعك كما يوعك الرَّجُلان من الناس.
والحكمة في هذا ، من أجل أن ينال صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الصبر ،
فإن الصبر منزلة عالية ، لا يُنال إلا بامتحان واختبار من الله- عز وجل- ؛ لأنه لا صبر إلا على مكروه ، فإذا لم يُصب الإنسان بشيء يكره فكيف يعرف صبره ،
ولهذا قال الله تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين﴾ [محمد:31]،
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما يوعك الرَّجُلان من الناس.
فجعل يتغشاه الكرب، فتقول فاطمة- رضي الله عنها- : ((وا كرب أباه)) ، تتوجع له من كربه ؛ لأنها امرأة ، والمرأة لا تطيق الصبر .
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (( لا كرب على أبيك بعد اليوم)) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما انتقل من الدنيا انتقل إلى الرفيق الأعلى ، كما كان صلى الله عليه وسلم - وهو يغشاه الموت- يقول ((اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى ))
أخرجه البخاري ، ومسلم .

وينظر إلى سقف البيت صلى الله عليه وسلم .
توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعلت، رضي الله عنها- تندبه، لكنه ندب خفيف، لا يدل على التسخط من قضاء الله وقدره.
وقولها: ((أجاب ربًّا دعاه)) ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى- هو الذي بيده ملكوت كل شيء، آجال الخلق بيده، تصريف الخلق بيده، كل شيء إلى الله، إلى الله المنتهى وإليه الرجعى.
فأجاب داعي الله، وهو أنه صلى الله عليه وسلم إذا توفي صار كغيره من المؤمنين، يصعد بروحه حتى توقف بين يدي الله- عز وجل- فوق السماء السابعة ، فقالت : وا أبتاه، أجابَ ربًّا دعاه.
وقولها: (( وا أبتاه جنة الفردوس مأواه)) صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أعلى الخلق منزلة في الجنة،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( اسألوا الله لي الوسيلة ؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو))
أخرجه مسلم .

ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم مأواه جنة الفردوس، وجنة الفردوس هي أعلى درجات الجنة، وسقفها الذي فوقها عرش الرب جل جلاله، والنبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجة منها.
قولها : ((يا أبتاه إلى جبريل ننعاه)) النعي: هو الإخبار بموت الميت،
وقالت : إننا ننعاه إلى جبريل ؛ لأن جبريل هو الذي كان يأتيه بالوحي صباحًا ومساء.
فإذا فقد النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فُقد نزول جبريل عليه الصلاة والسلام إلى الأرض بالوحي؛ لأن الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم لما حمل ودفن (قالت) رضي الله عنها: ((أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟))
يعني من شدة وجْدها عليه، وحزنها ، ومعرفتها بأن الصحابة- رضي الله عنهم- قد ملأ قلوبهم محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فهل طابت؟
والجواب: أنها طابت؛ لأن هذه ما أراد الله- عز وجل- وهو شرع الله، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام يُفدى بكل الأرض لفداه الصحابة رضي الله عنهم، لكن الله - سبحانه- هو الذي له الحكم، وإليه المرجع،
وكما قال الله تعالى في كتابه: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر:30،31] .

الفوائد:
في هذا الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر، يمرض ويجوع، ويعطش، ويبرد ، ويحتر ، وجميع الأمور البشرية تعتري النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال صلى الله عليه وسلم (( إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون))
أخرجه البخاري، ومسلم .
وفيه: رد على هؤلاء القوم الذين يُشركون بالرسول صلى الله عليه وسلم ، يدعون الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويستغيثون به وهو في قبره،
بل إن بعضهم- والعياذ بالله- لا يسأل الله تعالى ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ، كأنَّ الذي يجيب هو الرسول عليه الصلاة والسلام،
ولقد ضلوا في دينهم وسفهوا في عقولهم،
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ن فكيف يملك لغيره ؟!
قال الله تعالى آمرًا نبيه: ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾
بل هو عبد من عباد الله ، ولهذا قال: ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [الأنعام: 50 ] .
وقال الله- سبحانه- له أيضًا: ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا﴾ أي: هذه وظيفتي ﴿مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ﴾ [الجـن21ـ23]، ولما أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:214]،
دعا قرابته صلى الله عليه وسلم وجعل ينادي إلى أن قال: ((يا فاطمة بنت محمد ، سَليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا))
أخرجه البخاري، ومسلم .

إلى هذا الحد‍!! ابنته؛ التي هي بضعة منه والتي يُريبه ما رابه يقول لها: لا أغني عنك من الله شيئًا.
فهذا دليل على أن من سواها من باب أولى.
ففيه ضلال هؤلاء الذين يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم ، تجدهم في المسجد النبوي عند الدعاء يتجهون إلى القبر، ويصمدون أمام القبر كصمودهم أمام الله في الصلاة أو أشد.
وفي هذا الحديث : دليل على أنه لا بأس بالندب اليسير إذا لم يكن مؤذنًا بالتسخط على الله عز وجل ؛ لأن فاطمة ندبت النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه ندب يسير ، وليس يَنِمُّ عن اعتراض على قدر الله عز وجل.
وفيه دليل: على أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها بقيت بعد موته ولم يبق من أولاده بعده إلا فاطمة،
كل أولاده من بنين وبنات ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم ، بقيت فاطمة ، ولكن ليس لها ميراث، لا هيَ، ولا زوجاته، ولا عمه العباس، ولا أحد من عصبته ؛ لأن الأنبياء لا يُورثون، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة))
أخرجه البخاري، ومسلم .

وهذا من حكمة الله - عز وجل- لأنهم لو ورَّثوا لقال من يقول : إن هؤلاء جاءوا بالرسالة يطلبون ملْكًا يورث من بعدهم ، ولكن الله - عز وجل- منع ذلك، فالأنبياء لا يورثون ، بل ما يتركونه يكون صدقة يصرف للمستحقين له . والله الموفق.
* * *

29- وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحِبِّه وابن حبه، رضي الله عنهما ، قال: أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني قد احتُضر فاشْهَدنا، فأرسل يقريء السلام ويقول: ((إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب)) ، فأرسلت إليه تُقسِم عليه ليأتينها ، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسُه تَقَعْقَعُ، ففاضت عيناه ، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: «هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده» وفي رواية: «في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»
متفق عليه .
ومعنى: (( تَقَعْقَعُ)) تتحرك وتضطرب.

الشرح :
قال المؤلف - رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله عنهما- ، وزيد بن حارثة كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عبدًا، فأهدته إليه خديجة- رضي الله عنها- فأعتقه ، فصار مولى له،
وكان يُلَقَّب بِحِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي حبيبه، وابنه أيضًا حِبّ، فأسامة حبه وابن حبه رضي الله عنهما،
ذكر أن إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه رسولاً، تقول له إن ابنها قد احتضر، أي: حضره الموت ، وأنها تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر،
فَبَلَّغَ الرسولُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((مُرْها فَلْتَصْبِر وِلْتَحْتَسِبْ ،فإنَّ لله ما أخَذَ ولَهُ ما أَعْطى، وكُلُّ شيءٍ عندَهُ بأجلٍ مُسَمَّى)).
أمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي أرسلته ابنتُهُ أن يأمر ابنتَهُ- أم هذا الصبي- بهذه الكلمات: قال: ((فَلْتَصْبِر))أي: تحتسب الأجر على الله بصبرها؛ لأن من الناس من يصبر ولا يحتسب، يصبر على المعصية ولا يتضجَّر، لكنه ما يؤمل أجرها على الله فيفوته بذلك خير كثير ، لكن إذا صبر واحتسب الأجر على الله، يعني: أراد بصبره أن يثيبه الله ويأجره، فهذا هو الاحتساب
((مُرْها فَلْتَصْبِرْ)) يعني على هذه المصيبة ،((وَلْتَحْتَسِبْ)) أجرها على الله عز وجل.
قوله: ((فإنَّ لله ما أخَذَ وَلَهُ ما أَعْطَى))
هذه الجملة عظيمة ، إذا كان الشيء كله لله، إن أخذ منك شيئًا فهو ملكه، وإن أعطاك شيئًا فهو ملكه ، فكيف تسخط إذا أخذ منك ما يملكه هو؟
عليك إذا أخذ الله منك شيئًا محبوبًا لك أن تقول : هذا لله، له أن يأخذ ما شاء، وله أن يعطي ما شاء.
ولهذا يُسَنُّ للإنسان إذا أُصيب بمصيبة أن يقول (( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) يعني: نحنُ ملكٌ لله يفعلُ بِنا ما يَشاء ،
كذلك ما نحبه إذا أخذه من بين أيدينا فهو له- عز وجل- له ما أخذ وله ما أعطى ، حتى الذي يعطيك أنت لا تملكه، هو لله،
ولهذا لا يمكن أن تتصرف فيما أعطاك الله إلا على الوجه الذي أذن لك فيه ،
وهذا دليل على أن ملكنا لما يعطينا الله ملك قاصر، ما نتصرف فيه تصرفًا مطلقًا،
فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ماله تصرفًا مطلقًا على وجه لم يأذن به الشرع قلنا له أمسك، لا يمكن ؛ لأن المال مال الله، كما قال سبحانه ﴿وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم﴾ [النور:33 ]،
المال مال الله، فلا تتصرف فيه إلا على الوجه الذي أُذِن لك فيه ،
ولهذا قال: ((ولله ما أخذ وله ما أعطى)) فإذا كان لله ما أخذ، فكيف نجزع؟
كيف نتسخط أن يأخذ المالك ما ملك سبحانه وتعالى؟ هذا خلاف المعقول وخلاف المنقول!
قال: ((وكل شيء عنده بأجل مسمى)) كل شيء عنده بمقدار ، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8]،
بمقدار في زمانه ، ومكانه، وذاته، وصفاته، وكل ما يتعلق به فهو عند الله مُقدَّر.
((بأجل مسمى)) أي: معيَّن ، فإذا أيقنت بهذا، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، اقتنعت .
وهذه الجملة الأخيرة تعني أن الإنسان لا يمكن أن يغيِّر المكتوب المؤجل لا بتقديم ولا بتأخير ، كما قال الله ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس:49]،
فإذا كان الشيء مقدرًا لا يتقدم ولا يتأخر ؛ فلا فائدة من الجزع والتسخط ؛ لأنه وإن جزعت أو تسخطت لن تغيِّر شيئًا من المقدور.
ثم إن الرسول أبلغ بنت النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يُبَلِّغَه إياها، ولكنها أرسلت إليه تطلب أن يحضر، فقام عليه الصلاة والسلام هو وجماعة من أصحابه ، فوصل إليها ، فرُفِعَ إليه الصبي ونفسه تتقعقع ، أي: تضطرب، تصعدُ وتنزل، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام ودمَعَت عيناه ،
فقال سعد بن عباده وكان معه- هو سيد الخزرج- ما هذا ؟ ظنَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم بكى جزعًا،
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هذه رحمة)) أي: بكيت رحمة بالصبي لا جزعًا بالمقدور.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ،
ففي هذا دليل على جواز البكاء رحمة بالمصاب.
إذا رأيت مصابًا في عقله أو بدنه، فبكيت رحمة به، فهذا دليل على أن الله تعالى جعل في قلبك رحمة، وإذا جعل الله في قلب الإنسان رحمة كان من الرحماء الذين يرحمهم الله عز وجل ،
نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب الصبر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((مرها فلتصبر ولتحتسب)).
وفيه دليل أيضًا على أن هذه الصيغة من العزاء أفضل صيغة، أفضل من قوله بعض الناس: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك ، وغفر لميتك))
هذه صيغة اختارها بعض العلماء، لكن الصيغة التي اختارها الرسول عليه الصلاة والسلام ((اصبر واحتسب ، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)) أفضل؛ لأن المصاب إذا سمعها اقتنع أكثر.
والتعزية في الحقيقة ليست تهنئه كما ظنها بعض العوام، يحتفل بها، وتوضع لها الكراسي، وتُوقد لها الشموع، ويحضر لها القراء والأطعمة، بل هي تسلية وتقوية للمصاب أن يصبر،
ولهذا لو أن أحدًا لم يُصَب بالمصيبة، كما لو مات له ابن عم ولم يهتمَّ به ، فإنه لا يُعزى،
ولهذا قال العلماء رحمهم الله: (( تُسَنُّ تعزية المصاب)) ، ولم يقولوا تسن تعزية القريب ؛
لأن القريب ربما لا يُصاب بموت قريبه، والبعيد يصاب لقوة صداقة بينهما مثلاً ، فالتعزية للمصاب لا للقريب.
أما الآن- مع الأسف- انقلبت الموازين وصارت التعزية للقريب، حتى وإن كان قد فرح وضرب الطبول لموت قريبه فإنه يُعزَّى ،ربما يكون بعض الناس فقيرًا، وبينه وبين ابن عمه مشاكل كثيرة ، ومات ابن عمه وله ملايين الدراهم ،
هل يفرح إذا مات ابن عمه في هذه الحال أو يصاب؟ غالبًا يفرح، ويقول: الحمد لله الذي خلصني من مشاكله وورَّثني ماله!
فهذا لا يُعزَّى، هذا يُهنَّأ لو أردنا أن نقول شيئًا.
والمهم أنه يجب أن نعلم أن التعازي إنما هي لتقوية المصاب على الصبر وتسليته، فيختار لها من الكلمات أفضل ما يكون وأقرب ما يكون للتعزية، ولا أحسن من الكلمات التي صاغها نبينا صلى الله عليه وسلم .
والله الموفق.
* * *
30- وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلامًا أُعلمه السحر، فبعث إليه غلامًا يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟
فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بُنَيَّ أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستُبْتَلَى فإن ابتليت فلا تدل عليَّ ، وكان الغلام يبرئ الأكمة والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله تعالى فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي ، قال: أَوَ لكَ ربٌ غيري؟! قال ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ،
فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمة والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب؛ فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوُضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذِرْوَتَهُ فإن رجع عن دينه وإلا فاطرَحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك: ما فُعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ،فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرْقور وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك : ما فُعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغِهِ، فوضع يده في صدغه فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تَحْذَرُ؟ قد والله نزل بك حذرك. قد آمن الناس.
فأمر بالأخدود بأفواه السِّكَكِ فخُدَّت، وأُضرم فيها النيران ، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ، ففعلوا ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق))
أخرجه مسلم .

((ذِرْوة الجبل)) : أعلاه، وهي بكسر الذال المعجمة وضمها، و((القُرْقُور)) بضم القافين: نوع من السفن، و((الصعيد)) هنا: الأرض البارزة، و ((الأخدود)): الشقوق في الأرض كالنهر الصغير، و((أضرم)): أوقد، و(( انكفأت)) أي: انقلبت، و(( تقاعست )): توقفت وجبنت .

الشرح :
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالى- في باب الصبر فيه قصة عجيبة ، وهي: أن رجلاً من الملوك فيمن سبق كان عنده ساحر اتخذه الملك بطانة من أجل أن يستخدمه في مصالحه ولو على حساب الدين ؛ لأن هذا الملك لا يهتم إلا بما فيه مصلحته، وهو ملك مُستبِد قد عبَّد الناس لنفسه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر الحديث.
هذا الساحر لما كبر قال للملِك: إني قد كبرت فابعث إلي غُلامًا أعلمه السحر، واختار الغلام ؛ لأن الغلام أقبل للتعليم ؛ ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقى، ولا ينسى، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرًا بكثير من التعلم في الكبر، وفي كلٍّ خير، لكن التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان بل أكثر:
الفائدة الأولى: أن الشاب في الغالب أسرع حفظًا من الكبير ؛ لأن الشاب فارغ البال ليست عنده مشاكل توجب انشغاله.
وثانيًا: أن ما يحفظه الشاب يبقى، وما يحفظه الكبير ينسى،
ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس: (( إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر)) لا يزول.
وفيه فائدة ثالثة: وهي أن الشاب إذا ثُقِّفَ العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له، وصار كأنه غريزة قد شبَّ عليه فيشيبُ عليه، فهذا الساحر ساحر كبير قد تقدمت به السن وجرب الحياة وعرف الأشياء ، فطلب من الملك أن يختار له شابًا غلامًا يعلمه السحر، فبعث إليه غلامًا، فعلَّمه ما علَّمه، ولكن الله تعالى قد أراد بهذا الغلام خيرًا !
مرَّ هذا الغلام يومًا من الأيام براهب، فسمع منه فأعجبه كلامه ؛ لأن هذا الراهب- يعني العابد- عابد لله عز وجل، لا يتكلم إلا بالخير، وقد يكون راهبًا عالمًا لكن تغلب عليه العبادة فسُمِّي بما يغلب عليه من الرهبانية، فصار هذا الغلام إذا خرج من أهله جلس عند الراهب فتأخر على الساحر، فجعل الساحر يضربه، لماذا تتأخر؟
فشكا الغلام إلى الراهب ما يجده من الساحر من الضرب إذا تأخر ، فلقَّنَه الراهب أمر يتخلص به، قال: إذا ذهبت إلى الساحر وخشيت أن يعاقبك فقل:إن أهلي حبسوني ، يعني : تأخر عند أهله ، وإذا أتيت إلى أهلك فقل : إن الساحر أخرني ، حتى تنجو من هذا ومن هذا.
وكأن الراهب- والله أعلم- أمره بذلك- مع أنه كذب - لعله رأى أن المصلحة في هذا تَرْبو على مفسدة الكذب، مع أنه يمكن أن يتأوَّل !!
ففعل، فصار الغلام يأتي إلى الراهب ويسمع منه، ثم يذهب إلى الساحر، فإذا أراد أن يعاقبه على تأخره قال: إن أهلي أخَّروني، وإذا رجع إلى أهله وتأخر عند الراهب قال: إن الساحر أخرني، فمرَّ ذات يوم بدابَّةٍ عظيمة، ولم يعيِّن في الحديث ما هذه الدابة، قد حبست الناس عن التجاوز، فلا يستطيعون أن يتجاوزها ، فأراد هذا الغلام أن يختبر: هل الراهب خير له أم الساحر ، فأخذ حجرًا، ودعا الله سبحانه وتعالى إن كان أمر الراهب خيرًا أن يقتل هذا الحجر الدابة، فرمى بالحجر ، فقتل الدابة، فمشى الناس، فعرف الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر، وهذا أمر لا شك فيه؛ لأن الساحر إما معتدٍ ظالم، وإما كافر مشرك،
فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرَّب إليهم ويعبدهم ويدعوهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك ، وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدْوية فيها سحر فهذا ظالم معتد.
أما الراهب، فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتد ، وإن كان عنده شيء من الجهل والضلال فنيته طيِّبه، وإن كان عمله سيِّئًا.
المهم أن الغلام أخبر الراهب بما جرى، فقال له الراهب: أنت اليوم خير مني ؛ وذلك لأن الغلام دعا الله فاستجاب الله له.
وهذا من نعمة الله على العبد، أن الإنسان إذا شك في الأمر ثم طلب من الله آيةً تبيَّن له شأن هذا الأمر فبيَّنه الله له، فإن هذا من نعمة الله عليه، ومن ثم شُرعت الاستخارة، للإنسان إذا همَّ بالأمر وأشكل عليه ، هل في إقدامه خير أم في إحجامه خير، فإنه يستخير الله، وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالى يعطيه ما يستدل به على أن الخير في الإقدام أو الإحجام ، إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا، وإما برؤيا يراها في المنام، وإما بمشورة أحد من الناس، وإما بغير ذلك.
وكان من كرامات هذا الغلام أنه يبرئ الأكمة والأبرص ، يعني: أنه يدعو لهم فيبرأون ، وهذا من كرامات الله له.
وليس كقصة عيسى بن مريم يمسح صاحب العاهة فيبرأ، بل هذا يدعو الله فيستجيب الله تعالى دعاءه، فيُبرئ بدعائه الأكمة والأبرص.
وقد أخبر الراهب هذا الغلام بأنه سيُبتلى يعني: سيكون له محنة واختبار، وطلب منه أن لا يخبر به إن هو ابتلي بشيء، وكأن هذا الغلام- والله أعلم- مستجاب الدعوة، إذا دعا الله تعالى قَبِلَ منه، وكان للملك جليس أعمى- لا يبصر- ، فأتى بهدايا كثيرة لهذا الغلام حينما سمع عنه ما سمع وقال: لك ما هنا هنا أجمع- أي كله- إن أنت شفيتني، فقال، إنما يشفيك الله.
انظر إلى الإيمان ! لم يغترَّ بنفسه وادَّعى أنه هو الذي يشفي المرضى، بل قال: إنما يشفيك الله عز وجل،
وهذا يشبه من بعض الوجوه ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمة الله عليه-، حينما جيء إليه برجل مصروع قد صرعه الجنيُّ، فقرأ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولكنه لم يخرج، فجعل شيخ الإسلام يضربه على رقبته ضربًا شديدًا، حتى إن يد شيخ الإسلام أوجعته من الضرب ، فتكلَّم الجني الذي في الرجل وقال له: أخرج كرامة للشيخ، فقال له الشيخ رحمه الله: لا تخرج كرامة لي ولكن أخرج طاعة لله ولرسوله، لا يريد أن يكون له فضل ، بل الفضل لله عز وجل أولاً وآخرًا، فخرج الجني ، فلما خرج الجني استيقظ الرجل فقال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ لأنه حينما صُرع يمكن أنه كان في بيته أو سوقه، قال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ فقالوا: سبحان الله! ألم تحسَّ بالضرب الذي كان يضربك؟ قال: ما أحسست به ولا أوجعني ، فأخبروه ، فبريء الرجل!
الشاهد أن أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم، وإنما ينسبونها إلى موليها عز وجل وهو الله.
وقال له: (( فإن أنت آمنت دعوت الله لك)) فآمن الرجل، فدعا الغلام ربه أن يشفيه، فشفاه الله، فأصبح مبصرًا، فجاء هذا الجليس إلى الملك وجلس عنده على العادة ، فسأله الملك: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي ، قال: ولك رب غيري؟ قال:ربي وربك الله ، فأخذه ، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، وأتى بالغلام وأخبره بالخبر وعذَّبه تعذيبًا شديدًا ، قال من الذي علَّمك بهذا الشيء ؟ وكان الراهب قد قال له: إنك ستُبتلى، فإن ابتُليت فلا تخبر عني ، ولكن لعله عجز عن الصبر، فأخبر عن الراهب، وكان هذا الملك الجبار- والعياذ بالله- لما دلوا على الراهب، جيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك ، ولكنه أبى أن يرجع عن دينه ، فأتوا بالمنشار فشذبوه من مفرق رأسه- من نصف الجسم- فبدأوا بالرأس ، ثم الرقبة، ثم الظهر حتى انقسم قسمين - شقَّين: سقط شق هنا وشق هنا- ولكنه لم يُثنه ذلك عن دينه ، أبى أن يرجع، ورضِيَ أن يقتل هذه القتلة ولا يرجع عن دينه- ما شاء الله-!!
ثم جيء بالرجل الأعمى الذي كان جليسًا عند الملك وآمن بالله، وكفر بالملك ، فدُعي أن يرجع عن دينه فأبى، ففُعلَ به كما فعل بالراهب ، ولم يردَّه ذلك عن دينه، وهذا يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يصبر.
ولكن هل يجب على الإنسان أن يصبر على القتل؟ أو يجوز أن يقول كلمة الكفر ولا تضره إذا كان مكرهًا ؟
هذا فيه تفصيل: إن كانت المسألة تتعلق بنفسه فله الخيار : إن شاء قال كلمة الكفر دفعًا للإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان ، وإن شاء أصر وأبى ولو قُتل، هذا إذا كان الأمر عائدًا إلى الإنسان بنفسه ، يعني مثلاً قيل له: اسجد للصنم، فلم يسجد، فقتل، أو سجد دفعًا للإكراه ولم يقتل.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالدين ، بمعنى: أنه لو كفر ولو ظاهرًا أمام الناس لكفر الناس ، فإنه لا يجوز له أن يقول كلمة الكفر، بل يجب أن يصبر ولو قُتل، كالجهاد في سبيل الله ،
المجاهد يقدمُ على القتل ولو قتل ؛ لأنه يريد أن تكون كلمة الله هي العليا،
فإذا كان إمامًا للناس وأُجبر على أن يقول كلمة الكفر فإنه لا يجوز أن يقول كلمة الكفر، لاسيما في زمن الفتنة، بل عليه أن يصبر ولو قُتل.
ومثل ذلك: ما وقع للإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله - حين امتُحن المحنة العظيمة المشهورة، على أن يقول إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، فأبى، فأُوذي وعُزِّر، حتى إنه يجر بالبغلة بالأسواق- ، إمام أهل السنة يجر بالبغلة بالأسواق ويضرب بالسوط حتى يغشى عليه ، ولكنه كلما أفاق قال: القرآن كلام ربي غير مخلوق.
وإنما لم يجز لنفسه أن يقول كلمة الكفر مع الإكراه؛ لأن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فلو قال: القرآن مخلوق، لصار كل الناس يقولون: القرآن مخلوق، وفسد الدين ، ولكنه- رضي الله عنه- جعل نفسه فداء للدين ومع هذا صبر واحتسب، وكانت العاقبة له ولله الحمد ، مات الخليفة ، ومات الخليفة الثاني الذي بعده، وأتى الله بخليفة صالح أكرمَ الإمام أحمد إكرامًا عظيمًا، فما مات الإمام أحمد حتى أقرَّ الله عينه بأن يقول الحق عاليًا مرتفع الصوت، ويقول الناسُ الحقَّ معه، وخُذل أعداؤه الذين كانوا يحدثون الخلفاء عليه، ولله الحمد،
وهذا دليل على أن العاقبة للصابرين، وهو كذلك، والله الموفق.
لما قتل الملك الراهب، وقتل جليسه ، جيء بالغلام فطُلب منه أن يرجع عن دينه إلى دين الملك، ودين الملك دين شرك ؛ لأنه- والعياذ بالله - يدعو الناس إلى عبادته وتأليهه.
فأبى الغلام أن يرجع عن دينه ، فدفعه الملك إلى نفر من أصحابه- أي جماعة من الناس- وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، جبل معروف عندهم شاهق رفيع، وقال لهم: إذا بلغوا ذروته: فاطرحوه ، يعني: على الأرض، ليقع من رأس الجبل فيموت، بعد أن تَعرِضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن رجع وإلا فاطرحوه.
فلما بلغوا به قمة الجبل طلبوا منه أن يرجع عن دينه فأبى؛ لأن الإيمان قد وقَر في قلبه، ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح،
فلما همُّوا أن يطرحوه قال: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)).
دعوة مضطر مؤمن: ((اللهم اكفينهم بما شئت)) أي: بالذي تشاء، ولم يُعيِّن ، فرجف الله بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم الله عز وجل.
ثم دفعه إلى جماعة آخرين، وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور- أي سفينة- فإذا بلغوا لـجَّةَ البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رَمَوه في البحر. فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه - وهو الإيمان بالله- عز وجل- فقال: لا! أبى، ثم قال: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)) ،
فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله. ثم جاء إلى الملك فقال له: أين أصحابك؟ فأخبره بالخبر،
ثم قال له: إنك لست قاتلي حتى تفعل ما آمرك به! قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، كل أهل البلد تجمعهم في مكان واحد، ثم تصلبني على جذع ، ثم تأخذ سهمًا من كنانتي فتضعه في كبد القوس، ثم ترميني به وتقول: بسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني!
فجمع الملك الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخذ سهمًا من كنانته فوضعها في كبد القوس، ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فأصابه السهم في صدغه، فوضع يده عليه ومات، فأصبح الناس يقولون: بسم الله رب الغلام. وآمنوا بالله وكفروا بالملك، وهذا هو الذي كان يريده هذا الغلام.
ففي هذه القطعة من الحديث دليل على مسائل:
أولاً: قوة إيمان هذا الغلام، وأنه لم يتزحزح عن إيمانه ولم يتحوَّل .
ثانيًا: فيه آية من آيات الله، حيث أكرمه الله عز وجل بقبول دعوته، فزلزَلَ الجبل بالقوم الذين يريدون أن يطرحوه من رأس الجبل حتى سقطوا.
ثالثاً: أن الله عز وجل يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، فإذا دعا الإنسان ربه في حال ضرورة مُوقنًا أن الله يجيبه، فإن الله تعالى يجيبه،
حتى الكفار إذا دعوا الله في حال الضرورة أجابهم الله، مع أنه يعلم أنهم سيرجعون إلى الكفر، إذا غشيهم موج كالظُّلل في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، فإذا نجَّاهم أشركوا ، فينجيهم ؛ لأنهم صدقوا في الرجوع إلى الله عند دعائهم ، وهو سبحانه يجيب المضطر ولو كان كافرًا.
رابعًا: أن الإنسان يجوز أن يغرِّرَ بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه، وهو أن يأخذ سهمًا من كنانته ويضعه في كبد القوس ويقول : باسم الله ربِّ الغلام.
قال شيخ الإسلام: ((لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمةٌ وهو لم يفتقد شيئًا ؛ لأنه مات وسيموت إن آجلاً أو عاجلاً)).
فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله.
ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين ، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام .
وهو قوله صلى الله عليه وسلم (( … ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدًا))
أخرجه البخاري ، مسلم .

لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام ؛ لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مائة أو مائتين ، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يُسلم الناس،
بخلاف قصة الغلام، فإن فيها إسلام كثير من الناس، فكل من حضر في هذا الصعيد أسلموا، أما أن يموت عشرة أو عشرون أو مائة أو مائتان من العدو ، فهذا لا يقتضي أن يسلم، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويُوغرُ صدره هذا العمل حتى يفتك بالمسلمين أشد فتك ،
كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات وقتل ستة أو سبعة أخذوا من جراء ذلك ستين نفرًا أو أكثر، فلم يحصل في ذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع للذين فُجِّرَت هذه المتفجرات في صفوفهم.
ولهذا نرى أن ما يفعله بعض الناس من هذا الانتحار ، نرى أنه قتلٌ للنفس بغير حق، وأنه موجب لدخول النار والعياذ بالله، وأن صاحبه ليس بشهيد .
لكن إذا فعل الإنسان هذا متأولاً ظانًا أنه جائز، فإننا نرجو أن يَسْلَم من الإثم، وأما أن تكتب له الشهادة فلا ؛ لأنه لم يسلك طريقة الشهادة، لكنه يسلم من الإثم ؛ لأنه متأول، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر.

في خاتمة هذا الحديث العظيم الذي فيه العبرة لمن اعتبر، فيها أن الملك الكافر الذي يدعو الناس إلى عبادته، لما آمن الناس وقالوا آمنا بالله رب الغلام، جاءه أهل الشر وأهل الحقد على الإيمان وأهله ، وقالوا له: أيها الملك إنه وقع ما كنت تحذر منه، وهو الإيمان بالله، وكان يحذر ذلك ؛لأنه - والعياذ بالله - قد جعل نفسه إلها كما فعل فرعون ، وكان ملكًا طاغيًا ظالمًا ، فأمر بالأخدود على أفواه السكك فخدت،
الأخدود يعني: حفر عميق مثل السواقي ،
على أفواه السكك: يعني على أطراف الأزقَّة والشوارع ، وقال لجنوده: من جاء ولم يرجع عن دينه فأقحموه فيها؛ لأنه أضرم فيها النيران_ والعياذ بالله- فكان الناس يأتون ولكنهم لا يرتدون عن دينهم وإيمانهم، فيقحمونهم في النار، فكل من لم يرجع عن دينه الحقيقي- وهو الإيمان بالله- قذفوه في النار، ولكنهم إذا قذفوهم في النار واحترقوا بها فإنهم ينتقلون من دار الغرور والبوار إلى دار النعيم والاستقرار؛ لأن الملائكة تتوفاهم طيبين يقولون: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل:32] ، ولا أعظم من هذا الصبر، أن يرى الإنسان النار تتأجج فيقتحم فيها خوفًا على إيمانٍ وصبرًا عليه. فجاءت امرأة ومعها صبي رضيع ، فلما رأت النيران كأنها تقاعست أن تقتحتم النار هي وطفلها، فقال لها الطفل : يا أماه اصبري فإنك على الحق، يقوله وهو صغير لا يتكلم ، لكن أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وهو كرامة لهذه الأم ، أن الله أنطق ابنها من أجل أن تقوى على أن تقتحم النار وتبقى على إيمانها ؛ لأن تكلم هذا الصبي في المهد آية عظيمة ، وقد شهد هذا الصبي بأن أمه على الحق، فصبرت واقتحمت النار، وهذا من آيات الله ، وهو دليل على أن الله تعالى ﴿يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الزمر:61] .
ومريم بنت عمران- رضي الله عنها- خرجت من أهلها وذهبت مكانًا قصيًّا وهي حامل بابنها عيسى الذي خلقه الله تعالى بكلمة كُنْ فكان ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ [مريم:23]، يعني: الطلق، فوضعت تحت جذع النخلة، وجعل الله تحتها نهرًا يمشي ، فقيل لها:﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم:25]، رطب يقع من فرع النخلة، جنيًّا لم يتأثَّر بسقوطه على الأرض، وهذا من آيات الله؛لأن من المعروف أن الرطب لو سقطت من يد الإنسان- ولو كان واقفًا فقط- تمزَّقت، لكن هذه الرطب لم تتمزق، مع أنها تسقط من فرع النخلة،
ثم إن هذه المرأة امرأة ضعيفة ماخض، لم تلد إلا الآن، ومع ذلك تهزُّ النخلة من جذعها فتهتز النخلة، فهذا أيضًا من آيات الله؛ لأن العادة أن النخلة لا تهتز من الجذع إلا إذا هزَّها أحد قوي من فرعها، فقيل لها: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا﴾ [مريم: 26] ، ثم أتت به قومها تحمله، هذا الطفل ، فصاحوا بها: ﴿يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾[مريم:27]، يعني: شيئًا عظيمًا؛ لأنهم أيقنوا بأنها زنت- والعياذ بالله- كيف يأتيها ولد من دون زوج؟﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم:28] ، يعني: أن أباك ليس امرأ سوء، وكذلك أمك ليست بغيًّا، ليست زانية، فمن أين جاءك هذا؟ وهذا تعريض لها بالقذف،فأشارت إليه؟ يعني: اسألوه قالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾[مريم: 29]، فظنوا أنها تسخر بهم، فأنطق الله هذا الصبي﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ - كلام فصيح- ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾[مريم:30 -33] .
عشر جمل تكلم بها هذا الصبي الذي في المهد بأبلغ ما يكون من الفصاحة فانظر إلى قدرة الله عز وجل-، حيث ينطق هؤلاء الصبيان بكلام من أفصح الكلام، بكلام يصدر من ذي عقل، كل ذلك دلالة على قدرة الله، وفيه أيضًا إنقاذُ لمريم- رضي الله عنها- من التهمة التي قد تلحقها بسبب هذا الحمل بدون زوج، وهكذا أيضًا هذا الطفل مع المرأة التي تقاعست أن تقتحم النار، أكرمها الله إنطاق هذا الطفل من أجل أن تقتحم النار وتبقى على إيمانها، وفي هذه القصص وأمثالها دليل على أن الله- سبحانه وتعالى- برحمته ينجي كلَّ مؤمن في مفازته، وكل متق في مفازته، يعني في موطنٍ يكون فيه هلاكه، ولكن الله تعالى ينقذه لما سبق له من التقوى، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (((( تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْكَ في الشدة))
والله الموفق.
* * *

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.ansarsonna.com
 
شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر ( جـزء 2 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر  ( جـزء 4 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
»  شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر ( جـزء 1 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
»  شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّـبْــر ( جـزء 3 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
»  شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّـــوبــة ( جـزء 4 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
»  شرح أحاديث رياض الصالحين باب التَّـــوبــة ( جـزء 3 ) شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى جماعة أنصار السنة ببورسعيد :: العلوم الشرعية :: منتدى الأحاديث النبوية-
انتقل الى: