310454
إن للتفكر في الآيات التي تقرؤها أثرًا كبيرًا في خشوع القلب والجوارح، فتدبرُ القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير. وكثيرًا ما نجد أن بعض الآيات القرآنية ختمت بقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، (أَفَلا يَعْقِلُونَ)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، فالقرآن الكريم يدعونا إلى التفكر في آيات الله ..

أما بعد: إن للتفكر في الآيات التي تقرؤها أثرًا كبيرًا في خشوع القلب والجوارح، فتدبرُ القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير. وكثيرًا ما نجد أن بعض الآيات القرآنية ختمت بقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، (أَفَلا يَعْقِلُونَ)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، فالقرآن الكريم يدعونا إلى التفكر في آيات الله، قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: 29]، وقال سبحانه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]، أما الذين أغلقت قلوبهم وتحجرت عن قبول الحق فقال الله عنهم: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح للهواء ولا للنور، فهي تحول بينها وبين الانتفاع بهدى القرآن.


إن للتفكر في الآيات المقروءة أثرًا عظيمًا بالغًا في رقة القلب وخشيته وإقباله على الله سبحانه، وإن الناظر في أحوال كثير من الناس يجد من قسوة القلب وقحط العين ما لا يعلمه إلا الله، تتلى عليهم الآيات التي لو خوطب بها جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا متذللاً من خشية الله ولا تحرك فيهم شيئًا، وهذه من أعظم المصائب التي يصاب بها العبد من حيث لا يشعر، فإن التلذذ بآيات الله نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، إنها نعمة ترفع العمر وتزكيه وتباركه.


عباد الله: إن العيش مع آيات الله يجعل المسلم ينتقل من عالم المحسوسات إلى عالم آخر هو عالم الغيب، ويجعل المسلم يعرف أن الموت ليس نهاية المرحلة، وإنما هو مرحلة في الطريق، ويجعل المسلم يوقن أن ما يناله في هذه الحياة ليس نصيبه كله، بل هو جزء من ذلك النصيب، ويعرف أن هذه الحياة مزرعة ودار حرث، وأن ما زرعه سوف يحصده، فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع، وأن هذه الحياة إنما هي دار ممر لا دار مقر، وأن كل ما فيها من لذات إنما هو لعب ولهو وغرور، وأن الحياة الحقيقية هي في الآخرة، فهذا يجعل المسلم لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أوتي.


عباد الله: إن العيش مع القرآن يجعل المسلم يعرف أنه أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية، إنه إنسان بنفخة من روح الله، قال سبحانه: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 29]، وإنه مستخلف في الأرض كما قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]، ومسخر له كل ما في الأرض كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [الجاثية: 13].


إن تدبر آياته يجعل المسلم هادئ النفس مطمئن القلب قرير العين، يؤمن بأن الله هو الرزاق فلا يرجو غيره، ويؤمن بأن الله هو القوي فلا يخاف غيره.


وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتأثر بالقرآن أشد تأثر إذا قرأه أو قرئ عليه، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ عليّ القرآن"، فقلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، قال: فقرأت عليه من سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]، قال: "حسبك"، قال ابن مسعود: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه. ولما كسفت الشمس في عهده -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم، فجعل يبكي وينفخ، ويقول: "رب: ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟! ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟! ونحن نستغفرك". وعن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل". أخرجه أبو داود. أي: غليان كغليان القدر. وكذا كان أبو بكر الصديق وعمر -رضي الله عنهما-.


وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما اشتد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه قيل له في الصلاة قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن غلب عليه البكاء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مروه فليصلِّ بالناس". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أنها قالت -رضي الله عنها-: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. والشاهد من ذلك أنه كان يتأثر بالقرآن حتى بلغ أنه لا يملك نفسه من البكاء عند القراءة.


وفي ترجمة عمر -رضي الله عنه- أنه كان في وجهه خطان من البكاء. وروي عنه أنه سمع آية من كتاب الله فغشي عليه وعاده الناس شهرًا. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما نزلت (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) [النجم: 59، 60]، بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسهم بكى معهم قال: فبكينا ببكائه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يلج النار من بكى من خشية الله". رواه الترمذي. وقرأ ابن عمر -رضي الله عنهما- سورة المطففين حتى بلغ قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 6]، فبكى حتى خرّ وامتنع عن قراءة ما بعدها.


وعن مزاحم بن زفر قال: صلى بنا سفيان الثوري المغرب، فقرأ حتى بلغ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، فبكى حتى انقطعت قراءته ثم عاد فقرأ الحمد. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت فضيلاً يقول ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد وهو يبكي ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31]، وجعل يقول: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) ويردد: وتبلو أخبارنا؟! إنك إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكي.


وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -عز وجل-: قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي؛ فإذا قال عبدي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، قال: حمدني عبدي، فإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال: مجدني عبدي أو أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال: فوض إليّ عبدي، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قال: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"، وفي رواية: "فيسأله عبده: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)، فيقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". رواه مسلم.


قال ابن القيم: "إذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله: حمدني عبدي، فإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) انتظر الجواب بقوله: مجدني عبدي. فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) انتظر جوابه: فوض إليّ عبدي. فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه: عبدي ثلاث مرات، فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحًا وسرورًا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: حمدني عبدني ومجدني عبدي. تبارك وتعالى إلهًا معبودًا موجودًا لا يستحق العبادة غيره، ولا تنبغي إلا له، قد عنت له الوجوه، وخضعت له الموجودات، وخشعت له الأصوات، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء: 44]، (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [الروم: 26]، فكل ما في السموات والأرض وما بينهما قانتون مخبتون له سبحانه.


وقوله سبحانه: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: فهو قيوم قام بنفسه وقام به كل شيء، فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها، قد استوى على عرشه وتفرد بتدبير ملكه، فالتدبير كله بيديه، ومصير الأمور كلها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29]، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، ولا مبدل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه، فيقدر المقادير، ويوقت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائمًا بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.


ثم يشهد العبد عند ذكر اسم الرَّحْمَنِ -جل جلاله- ربًا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان، متحببًا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلاً، فوسعت رحمته كل شيء، ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته علمه، فاستوى على عرشه برحمته، وخلق خلقه برحمته، وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته.


فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فيشهد ملكًا قاهرًا قد دانت له الخليقة، وعنت له الوجوه، وذلت لعظمته الجبابرة، وخضع لعزته كل عزيز، فيشهد بقلبه ملكًا على عرش السماء، مهيمنًا لعزته، تعنو له الوجوه وتسجد.


فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، ففيها سر الخلق والأمر والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل، وقد أنزل الله -سبحانه وتعالى- مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في أربعة: وهي التوراة والإنجيل والقرآن والزبور، جمع معانيها في القرآن، وجمع معانيه في المفصل، وجمع معانيه في الفاتحة، وجمع معانيها في: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).


وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله، فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته.


ثم يشهد الداعي بقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة، فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين، وهذا المطلوب من هذا الدعاء، وهو الهداية إلى الإسلام الموصل إليه سبحانه.


ثم بيّن أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته، دون المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، ودون الضالين "وهم الذين عبدوا الله بغير علم".


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:


عباد الله: إن على المسلم أن يحرص كل الحرص على أن يتدبر ما يقرؤه من كتاب الله، قال ابن مسعود: "إذا سمعت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارع لها سمعك؛ فإنه أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه".


ويستحب أيضًا أنه كلما مر بآية تسبيح سبّح، وكلما مر بآية عذاب تعوذ، وكلما مر بآية رحمة سأل الله من فضله؛ لما روى مسلم عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة... -إلى أن قال-: فإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوّذ. رواه مسلم. قال الإمام أحمد: "إذا قرأ: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) في الصلاة وغيرها قال: سبحانك بلى". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة، وما فيه من دعاء يحصل للتالي والمستمع لما روى الحاكم وغيره عن أبي ذر مرفوعًا: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين هما صلاة وقرآن ودعاء".


وممّا يعين على تدبر القرآن ترتيل القرآن وعدم الإسراع في قراءته؛ لقول الله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 4]، (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه) [القيامة: 16]. والتزام الخشوع والبكاء أو التباكي عند قراءته، كما أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ابْكُوا، فإن لم تبكوا فتباكوا". رواه ابن ماجه.


فالبكاء أثناء التلاوة وبخاصة عند قراءة آيات العذاب أو المرور بمشاهده أو أهوال يوم القيامة يزيد في الخشوع، وذلك عندما يستحضر المصلي أو القارئ مشاهد القيامة وأحداث الآخرة ومظاهر الهول فيها، ثم يلاحظ تقصيره وتفريطه، فإذا لم يستطع البكاء فليحاول التباكي، والتباكي هو استجلاب البكاء، فإن عجز عن البكاء والتباكي فليحاول أن يبكي على نفسه هو وعلى قلبه وروحه؛ لكونه محرومًا من هذه النعم الربانية، مريضًا بقسوة القلب وجمود العين.


ومما يعين على التدبر أيضًا تحسين الصوت وتزيينه بالقرآن، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "زينوا القرآن بأصواتكم". رواه النسائي وصححه الألباني، وفي رواية: "زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا". رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني.


وإذا كان المأموم يصلي وراء إمام حسن الصوت بالقرآن، فهذا يزيد الخشوع والتفكر في الآيات التي تقرأ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كله". وعن مجاهد أنه سئل عن رجلين: قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر البقرة وحدها وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما واحد سواء، فقال: "الذي قرأ البقرة وحدها أفضل في ترديد الآية للتدبر والتأثر بها".


وقد ثبت عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بآية يرددها حتى أصبح، والآية هي: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118]، فقد يكون للآية الواحدة تأثير في القلب إذا قرئت بتدبر أكثر من آيات كثيرة تقرأ بغير حضور قلب ولا تدبر. وقد ثبت عن كثير من الصحابة والسلف أيضًا ترديد آيات معينة وتكرارها لتدبرها والتأثر بها.


وعلى المستمع للقرآن أن يتأدب بآداب القرآن حين سماعه، ومن ذلك حسن السماع وحسن الإنصات والتدبر وحسن التلقي، وأن لا يفتح أذنيه فقط، بل كل مشاعره وأحاسيسه، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204]، لما سئلت أم سلمة -رضي الله عنها- عن قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). رواه أبو داود والنسائي. وهذه سنة تركها قراء هذا الزمان، فتسمعهم عند قراءتهم للقرآن في الصلاة أو في غيرها يقرؤون الآيتين والثلاث، وربما أكثر بنفس واحد، ولا يقفون عند رؤوس الآيات.


ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].


اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
---------
المصدر:
http://www.khutabaa.com/index.cfm?method=home.khdetails&khid=2952

607414
435347 435347