310454

الحمد لله رب العلمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا، إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة/257] ،
واعلموا عباد الله: أن خير الحديث كلام الله عز وجل، وأخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة.
يا أهل التوحيد، يا أهل التوحيد،يا إخواني في الله: ((روى الإمام أحمد)) في مسنده بسند مسلسل بالأئمة عن ((يحيى بن آدم)) وهو إمام أهل المشرق الإمام الكبير عن ((عبد الله بن المبارك)) الإمام الكبير عن ((الأوزاعي)) إمام أهل الشام عن ((يحيى بن أبي كثير)) إمام من أئمة أهل المدينة عن ((أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف)) هذا التابعي الجليل - رضي الله عن أبيه ورحمه - عن ((عبد الله بن سلام)) الإمام الأكبر الذي هو في الجنة الذي فضل الهدى على الغواية وترك اليهودية ودخل في الإسلام رضي الله عنه قال: "تذاكرنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أحب الأعمال إلى الله تعالى، فقال بعضنا: لو علمنا أي عمل أحب إلى الله لعملناه وأردنا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فهبناه، فما لبثنا حتى أرسل إلينا أولئك النفر رسولا - صلى الله عليه وسلم - فلما أتيناه قرأ علينا سورة الصف كلها، قال عبد الله بن سلام: قرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها"وقال أبو سلمة: قرأها علينا عبد الله بن سلام، وقال يحيى بن أبي كثير: فقرأها علينا أبو سلمة، وقال الأوزاعي: قرأها علينا يحيى بن أبي كثير وهكذا إلى نهاية السند، وقد أخرجها ابن كثير وهو من علماء القرن الثامن بسنده وقال: كل من في هؤلاء في هذا السند قرءوها على طلابهم إلا شيخنا أبا العباس الحجار فإنه كان أمياً وضاق الوقت علينا لتلقينه إياها ولكن حدثني بها أبو عبد الله الذهبي عن شيخ آخر عن شيخ مشايخنا فتمت لنا مسلسلة بالقراءة، ونحن نقرؤها كاملة لعل الله أن يسلكنا في سبيل أهل الحديث وأهل التوحيد.
سورة الصف
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)﴾.
إنها سورة أنصار الله، إنها سورة عظيمة، تأديب للخاصة قبل العامة، أولها بيان استغناء الله عن خلقه وعن نصرتهم، فالله يسبح لَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وما أنتم يا بني آدم إلا ذرة في ملكوت الله، إن سبحتم وإن تكبرتم، فإن الله يسجد له من في السماوات والأرض ﴿ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج/18].
وهو العزيز ذو العزة التامة ربنا، وهو الحكيم في شرعه وفي قدره وفي اختياره وفي فعله وفي أسمائه وصفاته وفي نعمه وفي كل شيء، جل ربنا وتقدس، ثم خاطبنا الله وخاطب الصحابة الذي تمونوا أشياء وبعضهم أو بعض ذلك العصر لما جاء ما تمنوا منهم من تولى يوم أُحد ومنهم من كره ومنهم من أقبل ومنهم كما قال الله من قال: ﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ﴾ [الأنفال/7].
عباد الله: لا تتمنى أمراً لا تطيقه وإنما قل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واحذر من هذه الأشياء، وإذا حق أمر الله فأري الله من نفسك خيرا تفلح.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)﴾ احذر أن تقول ما لا تفعل قدر استطاعتك ثم قال الله: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ المقت: ليس البغض فحسب وإنما غاية البغض المنبني على ريبة أو ذنب أو دناءة تستحق المقت وهذا خاصية المقت، ولذلك مقت الله المشركين لأنهم في غاية اللؤم يخلقهم ويرزقهم ويعبدون غيره، ولذلك هذه الآية أشد آية على من ينصح الناس ويخطب فيهم ويعظم، يا لها من آية شديدة!، يقول الله: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾ وليس مطلوبا منك أن تفعل كل الخير، فإنك لم تطيقه ولكن احذر أن تخالفهم إلى ما تنهاهم عنه، واحذر أن تضيع فرائض الله، واحذر من النفاق وأما الخير فأمر بالخير ولو لم تقدر عليه كله يكن لك أجرهم إن شاء الله، تدبر هذه الآية ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ ليس مقت فحسب، وإنما ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾ احذروا من اختلاف الظاهر والباطن والقول والفعل، ثم قال الله مجاوبا لهم على سؤالهم ما الذي يحبه؟ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف/4].
قتال بالسيف قتال بالسنان، بالحجة بالبيان ، بالدعوة إلى الله، الجهاد الكبير، جهاد أولي العزم من الرسل حق الجهاد يحب الله من أهله أن يكونوا كالبنيان المرصوص في الجد وفي العزم وفي التآزر وفي التناصر، ولذلك فإن أهل التوحيد لا يختلفون، وإنما يُخالفون، ولا يفترقون وإنما يُفارَقون، أهل التوحيد أهل الصراط المستقيم، وأعداءهم لزموا هذه السبل ولذلك يجب على أهل التوحيد فيما يقبل الخلاف أن يكونوا كالبنيان المرصوص، يتراصوا فيما بينهم، ولذلك يحب الله في القتال الصف المرصوص، ويحب الله في الصلاة الصف المرصوص كأنهم بنيان مرصوص، ثم ذكر الله أهل الكتابين قبلنا لأنا على سبيلهم فكانوا يتمنون أشاء فلما حصلت ضعفوا عنها وجبنوا ونكلوا، فاحذروا أن تكونوا كهم.
ووالله ما قص الله قصص أهل الكتابين قبلنا إلا لأنا أشبه الناس بهم حذو القذة بالقذة، قال الله: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ﴾ كانوا أيام الاستضعاف والقتل يتمنون الفرج فلما جاءهم رسول من عند الله ومنهم ومن جنسهم وانفتح لهم باب الجهاد قالوا اذهب أنت وربك فقاتلا، انفتح لهم باب الدعوة، باب العبادة، باب الانقياد آذوا موسى باقتراحاتهم وباستهزائهم وبشتمهم، وما قصة البقرة عنا ببعيد، لما قال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، يقول الله: احذروا أن تفعلوا مع نبيكم كهؤلاء الذين كانوا يتمنون الخير ، ولما فُتِّحت لهم أبواب الخير هذا حالهم ﴿ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ﴾ [الأحزاب/69]
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ﴾ تعلمون جزمًا ﴿ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ فاحذر من الزيغ، احذر أن يأتيك الحق فترده، فإن أول الأمر منك أنت﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾ .
وتدبر كل آية في القرآن فيها أن الله لا يهدي أهل هذه الصفة وانظر ترى عجباً، فإن الله لا يهديهم ولا يوفقهم للحق من التوحيد فما دونه من كانوا بمثل هذه الصفات﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ والأمة الثانية: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ولم يقل يا قوم لأنه ليس له أب فيهم وإنما أمه منهم: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)﴾ وكانوا يتمنون الرسول وهكذا اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا ويقولون أظل زمان نبي، بل بعضهم ما جاء من الشام إلى الحجاز إلا انتظار لهذا النبي، ويستفتحون على الأميين ويتمنون بعثته، فلما بُعث قالوا هذا سحر مبين.
عباد الله: كثير من الناس يقول: يا ليت الله يفتح لنا باب الجهاد، وقد فُتحت الآن أبواب الجهاد الأكبر ، الشرك قد عم وطم، والبدع والفساد في الأرض، فلما لا تجاهد الآن؟ لما لا تنصر دين الله عز وجل؟ تتمنى شيء فإذا حصل كنت ممن يقولون ما لا يفعلون، أتظن أن الجهاد جهاد السيف فقط؟ والله لقد جاهد إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد جهادًا كبيرًا بغير السيف، أبواب الخير مفتحة أمامكم، ثم قال الله:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ لا أحد أظلم ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ ﴾ المشرك أيًا كان قد افترى على الله كذب، كما قال هود لقومه : ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)﴾ [هود/50]، وكما قال الله عن أهل العجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ [الأعراف/152].
كل من اتخذ عجلا أو وثنا أو وليا فهو مفتر على الله، من أظلم منه؟ سواء جاءه أو لم يأته، جاءه رسول ودُعي إلى الإسلام أو لم يُدعى، كما قال الله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ [العنكبوت/68].
الطائفتين، ولذلك معنى هذه الآية وهو يدعى إلى الإسلام: إما الدعوة المباشرة يسمع الآذان والقرآن والرسل، وإما أن مجرد بعثة الرسل هي الدعوة إلى الإسلام.
قال الله: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء/15].
فلما بعث الله الرسل دعا إلى الإسلام فوجب على بني آدم أن يبحثوا عن هؤلاء الدعاة ويلزموا طريقهم، فمن لم يفعل فما أظلم منه: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصف/7]، لا يهدى، أأنت أعلم به من الله خالقه؟ لا يُهدى، ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾ ، أرأيتم أحمق ينفخ في عين الشمس يريد أن يطفئ نورها بفمه؟ أرأيتم أحمق يعاند البحر؟ هذا حُمق أهل الباطل عندما يطمعون في إطفاء الحق، الحق كالشمس لو اجتمع بنو آدم ينفخون بأفواههم ما ضر الشمس شيء، الحق له سلطان على القلوب ولو كان صاحبه واحدًا كإبراهيم، يا أهل الباطل لا تطمعوا في إطفاء الحق ولو ضعف أهله فإن الله يبعثه ولو تواطأ الناس على خلافه، يبعثه كرة بعد كرة وقد حفظ الله لهذه الأمة أن طائفة منها ولو كانوا واحداً يبقون على الحق ظاهرين حتى يأتي عيسى بن مريم في آخر الزمان: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾ ، فليموتوا بغيظهم، نور الله باقٍ.
لذلك قيل للإمام أحمد في أوقات الفتن المدلهمة كهذه الأيام انتشر أهل الشر وعموا وطموا قالوا لأبي عبد الله: " غلبنا أهل الباطل فقال: هل غلبونا على قلوبنا؟ قالوا لا قلوبنا تعرف الحق قال: ما غلبونا، لن يضروكم إلا أذى، إنما هي صولات وجولات وتلك الأيام نداولها بين الناس "، ما دامت قلوبنا تعرف الحق لم يغلبونا عليها لم نغلب، هذا روح النصر، روح التفاؤل، هذا الذي يحرق أهل الباطل، إن ضعف أهل الحق مؤقت وإن هيجان أهل الباطل مؤقت، والعاقبة للمتقين، قال الله:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (9)﴾ والله منذ أن بُعث هذا الرسول دينه ظاهر إلى أن ينزل عيسى بن مريم فيملئ هذا الدين أقطار الأرض، ويُكسر الصليب ويقتل الخنزير وترفع الجزية، وليس إلى إسلام أو سيف، دين الله منصور، لا يوجد دين تستقيم له العقول والفطر إلا هذا التوحيد، أظهره الله على الدين كله﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْكافرونَ﴾ ، ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)﴾ .
ثم قال الله إجابة بعد إجابة، أتريدون ما يحبه الله؟ أتريدون ما يقربكم إليه؟: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾ يا له من استفتاح رائع، لو جاءك أحد وقال: أتريدني أن أدلك على تجارة رابحة تضمن فيها رأس المال؟ لاستشرف قلبك لسماع ذلك، يقول الله مخاطبا لنا بأحب الأسماء إلينا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)﴾ أول ميزاتها رأس المال مضمون، رأس مالك نفسك فمضمون منة الخسارة، تنجو من العذاب الأليم ضمنت رأس المال ثم الربح جنات عرضها السماوات والأرض، يا لها من تجارة، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)﴾ ما هي يا ربنا؟ ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ إيمانا لا ريب فيه ولا شك ولا تردد كما قال الله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات/15]
﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ ﴾.
عباد الله، أهل التوحيد: قدم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في القرآن كله إلا في موضعين، إن من جاهد اليوم بماله فنظر في كتاب من كتب التوحيد فتبرع وطبعه ونشره في الناس أو شريط من أشرطة أهل التوحيد أو ساهم وجاهد بماله بما يستطيع في التمكين لدين الله في الأرض فهي التجارة التي لا تبور وينجو فيها من العذاب الأليم، جاهدوا بالأموال، هل فكرت يوماً أن تقتطع من رزق الله لك مالم تجاهد به في سبيل الله في نشر التوحيد والسنة وبثها في أمة محمد وحرب البدع والمشركين؟ هذه التجارة العظيمة، ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ والنفس: بذل الجهد ولو لم يكن قتال، تبذل عمرك ووقتك وجهدك، يبلي شبابك وتفني جسمك في التمكين لدين الله في الأرض، هذا الجهاد بالنفس، إذا سُئلت أمام الله عن شبابك فيما أبليته وعن جسمك فيما أفنيته، في التمكين لدين الله في الأرض، نشر التوحيد وحرب الشرك وأهله، ونشر السنة وحرب البدع وأهلها ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾.
ثم قال الله: ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)﴾ " ثم رغبنا الله لما يعلم في نفوسنا من حب العاجل والنصر في الدنيا من اللذات قال: ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ إن صبرتم على الحق انتصرتم وظهر الحق، وإن تخاذلتم خُذلتم ، نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ ﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ بشرهم إن صدقوا مع الله بالنصر، بالعاقبة، بالتمكين، بظهور التوحيد وأهله، لا يأتيهم اليأس ولا القنوط ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ﴾ إن جاهدتم بأموالكم وأنفسكم ﴿ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ ثم أجاب الله مرة ثالثة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ يخاطبنا بأحب الأسماء إلينا ﴿ كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ﴾ إن ربنا لا يحاج منا إلى النصرة، وهو العزيز الجبار المتكبر، ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد/4] ﴿ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [محمد/21]
يَا أَيُّهَا﴿ الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ عيسى بن مريم كان مستضعفاً ولولا أن الله ألقى شبهه على غيره لقُتل وصلب، كان ضعيفًا مستضعفًا، ورفع للسماء والحوارين كذلك، بما نصروا الله وهم مستضعفون؟ لننظر في الآية الأخرى قال الله: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾[آل عمران/53]، هذا غاية نصر الله الإيمان والإسلام والإخلاص والمتابعة، إلزمها حتى تموت تنصر الله نصرا مؤزرا، يقتضي بك غيرك وينتفع بك الناس، افعلوا كالحواريين، وقصتهم عندكم في القرآن ليس نصر الله مخصصا في السيف فحسب، أمنا بالله واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، قال: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف/14]
أبشروا بالنصر والظهور، وأعظم الظهور أن تظهر على الحق، الحق له سلطان على القلوب، أعظم الظهور ألا تُغلب على قلبك ولا على نفسك، أعظم الظهور ألا.تمسك بالعروة الوثقى حتى تموت، رأى ابن سلام رضي الله عنه راوي هذا الحديث رؤيا أنه استمسك بعروة ثم انتبه من نومه وهو مستمسك بها، فأولها له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يموت على الإسلام ففهمها الصحابة أنه من أهل الجنة فكانوا يشهدون له بالجنة وهو حي، فمن استمسك بالعروة الوثقى حتى يموت فهو ظاهر، وهو منصور، وهو عزيز، وهو ممكن ، والأمور القدرية أمرها ليس بيدك، سليمان بن داود كان معه الجن والإنس والطير وجده إبراهيم لم يكن معه أحد، وإبراهيم أفضل، عباد الله: كونوا أنصار الله.
اللهم اجعلنا من أنصارك، اللهم اجعلنا من أنصارك، اللهم اجعلنا من أنصارك، اللهم اجعلنا من أنصارك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا تمقتنا يا حي يا قيوم اللهم لا تمقتنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون ممن يقول ما لا يفعل نعوذ بالله من مقتك نعوذ بك من مقتك، نعوذ بك من مقتك، اللهم أعنا على الجهاد بأموالنا وأنفسنا، اللهم خذ بنواصينا للبر والتقوى، اللهم اجعلنا ممن جاهد فيك حق الجهاد وجاهد فيك الجهاد الكبير، أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير، اللهم أعزنا بالتوحيد والسنة، وأعز التوحيد والسنة بنا، وأعز أهل التوحيد والسنة في كل مكان، وأظهرهم على أعدائهم يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه والهجوا إليه بالدعاء والتضرع إن ربنا رحيم ودود.